Translate

lundi 10 octobre 2011

Jarayid.com

Jarayid.com

فينيقيّون بين الأمس واليوم

أنسي الحاج

فينيقيّون

كان الفينيقيون يعبدون الشمس والسلام. إمبراطوريّة قامت على الغزو التجاري. كانوا واقعيين، لكن واقعيتهم لم تُنشّف عروقهم تماماً، فهاموا بآلهتهم وصدّروها إلى مصر وإلى يهود فلسطين، ونسجوا الأساطير، وبنوا المدافن كما تُبنى المنازل، إراحةً للأرواح.
لا نعرف كيف كان الفينيقيّون يعاملون فقراءهم، غير أن شغفهم بالنجاح ورغد العيش لا يبشّر بكبير إنسانيّة ولا بذمم طاهرة. هل كانوا كرماء؟ هل أهل البحر كرماء؟
أيّاً يكن سلوكهم حيال الفقراء، فمن المؤكد أن الفينيقيّين كانوا محسودين على نجاحهم ومكروهين لقلّة مثاليّتهم وضعف قابليّتهم للانخداع. كتب التأريخ، قديمها وحديثها، إلّا ما نَدَر، لا تأتي على ذكر نوابغهم أو إسهاماتهم الحضاريّة عموماً، فلم يصلنا عنهم غير العموميّات والتركيز على تجاريّتهم، وحين يحكى عن فلاسفتهم، رواقيّين وسواهم، يُنسبون إلى اليونان، كما يُنسب منهم رجال دولة وقانون وعلم إلى الرومان، تبعاً لأيٍّ من الدولتين كانت السيطرة.
كانت نساؤهم ماهرات. وكان جمال الجميلات آسراً. «هلمّي معي من لبنان يا عروس معي من لبنان». في عهد سليمان ابن داود، والذي وَقَع في عشق العديد منهنّ، بلغ بهنّ النفوذ حدّ تغليب عبادة آلهتهنّ في عقر دار إسرائيل على عبادة يهوه، واعتنق يهود كثيرون الديانة الفينيقيّة، واجدين فيها هواءً نقيّاً أعوزهم في خانوق التزمّت اليَهْوَهيّ. حتّى قامت قيامة رجال الدين عليهنّ وألّبوا الغوغاء وقضت فينيقيّات إسرائيل بمجازر عنصريّة.
■ ■ ■
لا نزال نقرأ تاريخنا (وتواريخ أمثالنا من الشعوب الرازحة دوماً تحت احتلالٍ ما لا بدّ أن يجرّ معه تزويراً تاريخياً) من خلال مناظير منحازة، في الطليعة منها مناظير التأريخات المستندة إلى الميثولوجيا الكلاسيكيّة الغربيّة، الإغريقية ـــــ الرومانيّة. وإذا وصلنا إلى مستند «توحيدي» إبراهيمي هو العهد القديم أو التوراة، وكثيراً ما يُسْتَند إليه، نجدنا، نحن الفينيقيّين وأهل ما بين النهرين ومصر خاصّة، نردّد أهاجي أعداء الأمس ضدّنا ونتبنّاها، بسرور الغباء وبَرَكَة إبراهيم أبي الأديان الثلاثة.
يجب إعادة الاعتبار إلى وثنيّاتنا، إلى جاهليّاتنا. كان أجداد أجدادنا يتفوّقون علينا في البحث، وكانوا، وهذا أهمّ، في عناقٍ عميق مع الطبيعة. كان العالم شابّاً، وأجداد أجدادنا شبّاناً. كانت العيون تحبو. لم يكن الإنسان عبداً للكواكب، بل صديقاً لها تحكي لغته ويحكي لغتها. كان الجبل حديث الولادة والبحر مراهقاً والثور بكراً والنعجة مغرورة. وكان الإنسان جديداً. وكان ابن هذه الأرض رائداً من روّاد السلام بأبهى صورتيه: الحبّ والحريّة. أعطت عشتار العديد من الأمثلة، لا على إلهام العشق وتجسيد الجمال، بل أيضاً على الوقوع في العشق، والاتّضاع حتّى العذاب في عبادة المعشوق.
سواء اخترع الفينيقيّون الحرف أو اقتبسوه من المصريّين يعود لهم فضل نشره في اليونان وأوروبا. لم يكن ذلك بدافعٍ ثقافيّ، غير أن النتيجة كانت إخراج أوروبا من البربريّة.
يُذكّر لبنانيو الحاضر بفينيقيّي الأمس لناحيةٍ غير مشرِّفة، هي استغلال السُذّج والمغلوبين على أمرهم. يُروى عن الفينيقيّين أنّهم، خلال عملهم في «المستعمرات»، أو حتّى على سفنهم، كانوا يرهقون عمّالهم ولا يدفعون لهم إلّا أبخس الأجور. وفي التعامل التجاري برعوا في الحيلة وفي الاحتيال، حتّى أضحت لفظة فينيقي شتيمة باللسان اليوناني. وتُروى أمثال هذه الحكايات وأشنع منها عن بعض مهاجرينا المعاصرين إلى أفريقيا وقبلها أميركا اللاتينيّة، حيث تمادى هذا البعض في استغلال طيبة السود والهنود بلا أخلاقيّة فظيعة.
■ ■ ■
لا نعرف كيف استطاع أدباء وفلاسفة أن يَطْلعوا في البيئة الفينيقيّة. ولا إذا كانوا قد طلعوا. التاريخ يُغفلهم. هل أدباؤنا المعاصرون حقيقيّون؟ هل مثاليّونا أصيلون؟ أم نحن مجرّد مقلّدين ومقتلَعي الجذور؟
في أحسن الأحوال، إذا أردنا التساهل، نحن ردّة فعل متفاوتة القيمة على طبيعة دهريّة في مجتمعنا هي الطبيعة التجاريّة المتأصّلة خصوصاً في سكّان الجهة البحريّة من بلادنا. أدباؤنا هم غالباً وارد الجبال، حيث الزراعة كانت ضماناً ضد الوعي التجاري الواسع والمتوسّع، قبل أن ينحدر الجميع إلى المدينة البحريّة ويتخلّقوا عموماً بأخلاق المرافئ.
لقد عاش فينيقيّو البحر، وأحفادهم فينيقيّو كلّ الأقاليم، خيالهم في الواقع المحسوس عبر المغامرة ذات الربحيّة وعبر الاتصال بالشعوب كزبائن والاتّجار وإيّاهم. كانت البحبوحة الماديّة هي الملهمة وهي الغاية. وكان نشر الحرف واسطة إلى هذه الغاية ورافعة معنويّة.
الأدباء اللبنانيّون نبتة غريبة. كلّ هذا المتوسّط إغراء بفرح العيش السطحي. شمسه مصطافة في جميع الفصول. يضحك المتوسّط أبلهَ ضحكةٍ في العالم. متوسّط الطول والعرض والموهبة والأخلاق. لا ملاك هنا ولا شيطان: ناسٌ أذكى من العاصفة.
اليونان شذّوا مرحليّاً على هذه القاعدة يوم اخترعوا التراجيديا. شعراؤهم أولئك لم يكونوا متوسطيّين. كانوا خيانة للمتوسّط، كما هما فكتور هوغو وبودلير خيانتان للعقلانيّة الفرنسيّة.
ما وراء اشقرار ذَهَب السماء والبحر، غرّز مسرحيّو التراجيديا الإغريقيّة عيونهم في عين العاصفة، وأخذوا على عاتقهم عبء الغَرَق.

الاخبار 10-10-2011