Translate

Affichage des articles dont le libellé est جوزف خريش. Afficher tous les articles
Affichage des articles dont le libellé est جوزف خريش. Afficher tous les articles

vendredi 7 janvier 2022

ألسيدة ام النور الهادية Hodigitria


ألسيدة أم النور " تُدعى العذراء الهادية او المرشدة ( Hodigitria) في الطقس الماروني. السيدة أم النور، هكذا تُدعى في كتاب الهدى ( من القرن العاشر ب.م ) وفي الصلوات الطقسية بوجه عام . ويُرمز الى لقب السيدة أم النور بنجمة تُرسم فوق المنديل الذي يغطي جبينها وكتفيها ،كما هي الحالة في صورة سيدة ايليج" ( انجيل ربولا وصوره ، 586م. 1978، ص ، 196) بهذه العبارة يلخص أستاذي المؤرخ المرحوم الأب بطرس ضو التقليد الذي جرى عليه أجدادنا الانطاكيون (في لبنان وسوريا وفلسطين ) في إطلاق لقب "سيدة أم النور" على العذراء مريم . وهو اللقب عينه الذي يحلو لأبناء بلدتي عين إبل المقيمين في لبنان وعالم الانتشار أن يطلقوه مجددا، اليوم، على النصب التذكاري الذي يقومون بتشييده عند مدخل البلدة الشمالي ، بحيث يقوم فوق تلة "ضهر العاصي" منارة ايمان وسلام، في منطقة الجليل الاعلى التي تقع فيها عين إبل ، فيما يُرجّح علماء الجغرافيا المقدسة (مثل الفرد دوران ) أن السيد المسيح ورسله، ومن بينهم السيدة العذراء مريم ، قد ساروا فوق أرضها خلال تجوالهم في ما يوافق أرض جنوب لبنان اليوم ، كما تفيد نصوص الانجيل المقدس والتقاليد في القرون المسيحية الاولى : -" وكان يسير في الجليل كله ... فشاع ذكره في سورية كلها ( فينيقية الساحلية والجبلية) " ( متى 4: 23). -" ثم خرج من هناك وذهب الى نواحي صور وصيدا واذا امرأة كنعانية خارجة من تلك البلاد تصيح..." ( متى 15:21) . -" ثم مضى من هناك وذهب الى نواحي صور وصيدا فدخل بيتا ..." مرقس 7:24) - " وتبعه جمع كثير من الجليل... والذين حول صور وصيدا جمع كثير اذ سمعوا كم صنع اتوا اليه .." ( مرقس 3:7-10) - يشير النص الانجيلي الى أن المسيح أحب اهل بلاد صور وصيدا واشاد بهم بقوله :" إن صور وصيدا تكون لهما حالة اكثر احتمالا يوم الدين " (متى 11:21، لوقا 10: 13 و 14). في معرض الاعداد لتمثال العذراء فوق التلة العين إبلية ، الواقعة على طريق المسيح قادما الى بلاد صور وصيدا أو راجعا منها الى الجليل الادنى ، ولكي يأتي العمل الفني صادق التعبير ومطابقا لملامح شخص السيدة المكرمة ، يحلو السؤال عن كيفية أداء ما نتوقع بأن يكون تحفة حضارية وروحية مميزة. ولذلك نود التذكير بضرورة الابتعاد عن الارتجال في التصميم والتنفيذ اللذين هما بحاجة الى اختصاص وابداع. فنسوق في هذا الصدد ،وعلى سبيل الاستلهام ، أمثلة ثلاثة من الفن المشرقي المقدس ، لعله يتم الأخذ بها ، في تحقيق النموذج الاقرب الى صورة العذراء بملامحها البشرية المحلية ، على أمل أن يحظى العمل الفني المنتظر بمسحة وهالة توحيان بالروحانية والقداسة . 1. النموذج الاول هو الرسم الذي وضعه مار ربولا السرياني.انها الصورة الاكثر قدما في تاريخ الفن المسيحي المشرقي .وضعها عام 586 في انجيله الشهيرالمزيّن بالرسوم .وهي واحدة من بين 292 صورة اخرى انتشرت في العالم ، وألهمت الكثير من اهل الفنون المقدسة .قال عنها احد الناقدين الفنيين الروس كونداكوف :" إن صورة أم الله الواردة في انجيل ربولا ملفتة بطابعها الجدير بالتقدير .العذراء الواقفة، بوجهها البيضاوي الشكل وعينيها الواسعتين ، انما هي صورة الجمال السرياني الانثوي ، كما رآه الرسام في عصره".والناقد الروسي عينه يرى في الصورة "نموذجا لصورة العذراء الهادية وحاملة الطفل على ذراعها الأيسر"

 ( N.Kondakov,Ikonogr,bogomatri,ISaint –Petersbourg,1911,p.181,in Boutros Daou,Evangile de Raboula et ses icons, p.190-196) Raboula ND.JPG 

كان لهذه الصورة تأثير واضح في الفن البيزنطي والاوروبي. ومن الامثلة العديدة على ذلك والتي يذكرها الاب ضو صورة "العذراء الهادية" الموجودة في كنيسة القديسة فرنسيسكا في روما.ومن مميزاتها العينان الواسعتان والفم الصغير والانف المستقيم ، كما في صورة ربولا. ومن الارجح انها جيء بها من الشرق، كما جيء بغيرها من قبل فنانين سريان ، وذلك في زمن كانت فيه روما ،بين القرنين الاول والثامن، تدين بمعظم أحبارها الى الشرق او ممن هم متأثرون بالشرق. 2-النموذج الثاني هو صورة مريم منقذة الشعب الروماني. الشبه بينها وبين صورة ربولا ملفت من اكثر من جانب واحد. وهي تتميز خصوصا بالنجمة التي تزين الرأس والكتف ( ولذلك دعيت أم النور ). والبعض يرى أن صورة مريم منقذة الشعب الروماني قد تكون منقولة عن صورة "أم الله" و"سيدة المعونات" التي كانت في كنيسة السيدة في مدينة صور اللبنانية ، وقبل ان تصبح "سيدة البحار" ، حيث اطلق لاول مرة على السيدة العذراء لقب "أم الله " ( تيو توكوس) وشيد على اسمها أولى بازيليك في العالم عام 303. ولعل نقل الصورة حصل على يد احد البابوات الذين تشكل مدينة صور مسقط رأسهم او الذين هم من اصل فينيقي سوري.نعني بهم خصوصا :البابا سيسينيوس الذي ولد في صور وانتخب بابا سنة 707.والبابا الثاني الصوري هو قسطنطين الاول الذي انتخب سنة 708 وتوفي سنة 715. ومن البابوات العظام الذين ولدوا في سوريا: البابا غريغوريوس الثالث الذي انتخب سنة 731.وعرف عنه دفاعه عن تكريم الصور في وجه الأيكونوكلاست (أعداء الصور). ساهم في انتشار المسيحية في اوروبا انتشارا واسعا عن طريق الدبلوماسية.وعزز العلاقات مع فرنسا بارسائه التحالف التاريخي معها عبر الملك شارل مارتل . قد يكون التأثير السرياني والفينيقي بالغا جدا على اوروبا وبيزنطية ، في الفترة الممتدة بين 586 و741، ليس فقط في الفن بل أيضا في السياسة وسائر جوانب الحياة الحضارية،إذ ان الفترة التي نتكلم عنها ظهرت فيها اولى مفردات الفن الكنسي ،ومن بينها صورة "مريم الهادية وحاملة الطفل" ،تحت تأثير ربولا، وشهد تاريخ الكنيسة خمسة بابوات من أصل شرقي ، منهم ، كما أشرنا، اثنان من صور- لبنان (ساسين وقسطنطين ) واثنان من سوريا ( أنيست وغريغوريوس الثالث)،وواحد من عائلة فينيقية مقيمة في جزيرة صقلية الايطالية (سرجيوس الاول). om Elnour.JPG -3 النموذج الثالث هو صورة سيدة أيليج في بلاد جبيل.ترقى هذه الصورة الى القرن الحادي عشر.الشبه كبير بينها وبين صورة ربولا: العينان الواسعتان، الفم الصغير، ألانف المستقيم ، الوجه البيضاوي الوضّاء. فوق ذلك يلاحظ اهل النقد الفني والخبرة أن المواد المستعملة في رسم صورة سيدة ايليج وصنعها انما هي ذاتها المستعملة في رسم صورة العذراء في انجيل ربولا السرياني الماروني . ألامر الذي يدعو الى الاستنتاج بأن الصورتين تعودان الى مصدر فني وحضاري واحد. MarieElige1.jpg هذه الخصائص الفنية التي تميزت بها النماذج الثلاثة التي اتينا على وصفها ، والتي تعبّر أكثر ما يكون التعبير عن الصورة التاريخية الاقرب الى حقيقة السيدة مريم ، نأمل أن تؤخذ بالاعتبار في المشروع الجلل الذي تنوي عين إبل تحقيقه ، تخليدا لذكرى السيدة أم النور ،الهادية ،الشفيعة ، بنت أرضنا، أم فادينا ،وأمنا.       ( رسالة كنت بعثت بها عام 2008 الى الفريق الذي كان يعد في كندا لاطلاق المشروع )

samedi 11 février 2017

مواكب شهداء المسيحية.




Objet: مواكب شهداء المسيحية - 
Date: 7 février 2017JTK 
Joseph Khoreich 

موجات الاضطهاد ، في ضوء الدوافع والاسباب والقرارات الرسمية
" إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم"  (يوحنا 15/20)

منذ ايامها الاولى الى ايامنا الحاضرة تعرضت المسيحية ، ولا تزال تتعرض في مناطق عديدة من العالم ، الى الاضطهاد ومختلف اشكال المضايقات. تكشف مواقع المراقبة ومختلف وسائل الاعلام الحديثة عن أن المسيحية هي اليوم  الاكثر عرضة للاضطهاد  من بين الاديان ، ( راجع تقارير Les Portes Ouvertes   ) . فما هي الاسباب والدوافع ، وما هي بخاصة القرارات ، المراسيم والشرائع التي تأخذ بمضامينها  السلطات الرسمية ، المدنية والدينية ، لتبرير مواقفها المعادية من مواطنين لها ، طالما اكدت  تعاليمهم ومعاملاتهم وأخلاقياتهم على احترام السلطات والعيش بسلام مع الجميع ، ولا سيما بالنسبة لأبناء الأقليات المسيحية في العالم ، ومنهم على الأخص المسيحيون من أبناء المشرق الذين باتوا في وسط البيئات الاسلامية شبه غرباء في مهد المسيحية  وفي ارضهم الأم . في هذا الواقع الذي لا يبدو انه يحمل من جديد  ، وقياسا على مختلف مراحل تاريخ المسيحية  ، يجوز القول أنه قلما نجت فيه الجماعات المسيحية من ظاهرة الاضطهاد المرتكب بحق أبنائها المدنيين والعزّل ، وبالتالي من قلما نجت من ظاهرة الاستشهاد بالدم ، وغالبا لا لسبب الا لأنهم مختلفون . ولكن للموضوعية ينبغي القول أيضا  : إنه  بمقدار ما مورس من اضطهاد بحق المسيحية وأبنائها من قبل الآخرين مارس بعض رؤساء المسيحية وابنائها ، المدنيون منهم والكنسيون ، الاضطهاد بحق الآخرين أيضا، فتحوَلت المسيحية بفعل ممارساتهم  في محطات وحقب من التاريخ ، ( حرب الايقونات ، والحروب الصليبية ، وعصر حركات الاصلاح ،ومحاكم التفتيش ،  وخلال الحربين العالميتين )   من مجتمع مضطهد ( بصيغة المفعول ) يتلقى الضربات الى مجتمع مضطهد ( بصيغة الفاعل ) يسدد الضربات لغيره. وذلك خلافا لجوهر تعاليم الانجيل  الصريحة والناصعة : " أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ،.." ( لوقا 6/27).  "اعطوا ما لقيصر  لقيصر وما لله لله " ( متى : 22/17-22) ،  " أطيعوا مدبريكم " ( أفسس : 6/5-9) .فليس من المستغرب في ضوء ذلك والنقد الذاتي للتاريخ ان يستبق قداسة البابا القديس يوحنا بولس الثاني زيارته التاريخية الى مصر والاراضي المقدسة وسوريا في مطلع الالفية الثالثة بإعلانه فعل اعتذار عن كل الخطايا والآلام التي تسببت بها حروب تم خوضها تحت "شعار الصليب" .
في هذا البحث الوجيز ليس من الممكن الاحاطة بجميع جوانب هذا الموضوع المتشعب والواسع . ألا انني سأتوقف على ظاهرة حملات الاضطهاد والاستشهاد التي تميزت بها القرون الاربعة الاولى من المسيحية ، وذلك في زمن سابق لأستيلاء  أهل السياسة والدفاع على ادارة شؤون المواطنين والمؤمنين الزمنية والدينية . كما قبل ان يستولي بعض رؤساء الكنيسة على شؤون الناس الدينية والدنيوية ، ضاربين  بعرض الحائط  بالمبدأ الايماني الذي يشكل جوهر الحياة المسيحية ' والقاضي بالفصل بين "ما هو لله وما هو لقيصر" . إنها حقبة من تاريخ المسيحية،  لا بل الانسانية بأجمعها ، من شأنها ان تقدم للقارىء المعاصر نموذجا عن مختلف أشكال المعاملات والتشريعات التمييزية التي لا تعترف بحقوق المسيحيين فحسب ، بل ايضا بحقوق الانسان في المطلق ، " كل أنسان وكل الانسان " . ألامر الذي يوجب ان يفتح امام الانسان المعاصر ، وفي اطار الحوار بين الاديان والحضارات ، باب جديد وواسع لنقد التراث الديني ، ولا سيما منه الفقهي واللاهوتي المتطرف ، والمسؤول على الساحة العالمية ، منذ احداث 11 ايلول 2001 ، عن ظاهرة تصاعد الارهاب الديني الذي تغذيه  الشرائع الفقهية  القديمة ( التكفير ، الردة ، الجزية ، الذمية ، البراء والولاء، محاكم التفتيش وغيرها ) بما فيها من تشويه لصورة العزة الالهية  ولحقيقة الاديان من حيث هي رسالات سلام ورحمة ، كي يستعيد الانسان صورته الحقيقية عندما يكون محترما  للقيم  الاساسية ( التي نصت عليها شرعات حقوق الانسان والشرائع السماوية )  : حرية الفكر والتعبير والاعلام  والمعتقد ، حرية العبادة والدين يما فيه جرية تغيير الدين ،  واحترام المرأة والعامل والطفل ، وحرية الانتقال والهجرة ، من دون التعرض للأذى من اي جهة ، وغير ذلك  من الحقوق والحريات الاساسية التي تتعرض في ايامنا الى الألغاء والمس بقدسيتها  في مجتمعات او دول عظمى ونافذة .
 موجات الاضطهاد العشر التي طاولت حياة المسيحيين وحقوقهم في القرون الاربعة الاولى :
تختلف  الاضطهادات التي مورست على الاجيال المسيحية الاولى بحسب  مزاجية الرؤساء والقيادات والمراتب الحكومية في وظائف الدولة واداراتها ، وخاصة في الجيش وحاشية القصر والقضاء .  وكذلك بحسب الانتماءات السياسية  والدينية ، ووفقا للاحوال الاقتصادية ، ولأختلاف الطبقات واللغات والفئات القومية والاجتماعية . وقد تكون الاضطهادات موسمية او دائمة ،  جسدية دموية ، او نفسية قهرية ضاغطة ، من خلال النبذ الاجتماعي والعزل ومصادرة الاملاك وحجز الحريات ، عن طريق السجن والتفنن بمختلف اشكال التعذيب وادواته ،  تمهيدا للموت  .
منذ ظهور المسيحية عمد الحكم الروماني الى اعتبارها جسما غريبا عنها. لذلك راح الحكام يتهمون المسيحيين بأنهم  "أعداء الدولة" ، لا بل ايضا أعداء الجنس البشري ، ملصقين بهم التهم  المختلقة والباطلة ، متذرعين بأمور عديدة  منها الطقوس السرية الجديدة التي كان يمارسها المسيحيون ، مما لم يكن بوسع الثقافة الوثنية استيعابه وفهم  معانيه الروحية . من جهة اخرى ، اذا كان بعض أتباع الاديان والمذاهب الغريبة عن دين السلطة الحاكمة  قد وجدوا  أحيانا سبل التخلص من الخضوع للديانة الرسمية ، مقابل تنازلات مادية او معنوية ، الا ان المسيحيين أبدوا مواقف متشددة ، في هذا الموضوع ، رافضين  القبول بأي عبادة للامبراطور وغير ذلك مثل تقديم الذبائح في المعابد الوثنية كعلامة للولاء الوطني ووحدة الدولة ، معلنين بذلك ولاءهم ل"مدينة سماوية"  ، وفقا لعبارة القديس أغوسطينوس . الامر الذي شكل سببا رئيسيا للاضطهاد ، بين اسباب اخرى . انطلاقا من هذا الموقف المبدأي تصاعدت المواقف العدائية من السلطة الرومانية والشعب الروماني حيال المسيحية الاولى ، الى حين الانتصار عليها في عهد قسطنطين . مع ذلك لا يمكن الجزم بأن السبب الاول  للاضطهاد كان سببا دينيا بحتا بقدر ما كان وطنيا سياسيا . اضيفت اليه تدريجا اسباب اخرى اقتصادية واجتماعية واخلاقية ، مقرونة خصوصا برؤية  الى الحياة والكون مناقضة  للوثنية . تناقض  قائم على الرغم  من مناداة  تعاليم المسيحية الى احترام السلطة :  " أطيعوا مدبريكم " ( افسس 6/5-9) ، وتوصيتها بالصلاة من اجل الحكام الزمنيين ( رسالة اكليمنضوس الى القورنثيين ) . في حين كانت  الدولة الرومانية لا تنظر الى الاديان الا من ناحية الولاء للدولة التي يجتمعون المواطنون في ظلها ، كمامن  خلال الطقوس المتعارف عليها ، إلا انه كانت للمسيحيين نظرتهم الخاصة التي تميزت بإزدراء المجد الباطل ومظاهر الغنى ، وبالابتعاد عن مظاهر اللهو والاعمال المطبوعة بالعنف الدموي ، وبالنهي عن العلاقات الجنسية خارج اطار الزواج المقدس والاسرة . هذه الرؤية وهذا المنهج السلوكي الاخلاقي هما مما شكل محور سوء الفهم الاساسي والتعارض العميق بين الدولة والمجتمع الروماني من جهة والدين الجديد من جهة أخرى .. موقف جوهري أدى بالمسيحيين الى القبول بالشهادة حتى الموت ، اقتداء بمعلمهم الاول وفادي البشرية قاطبة ، فوق الصليب.
درج المؤرخون للقرون المسيحية الاولى على تحديد عشر محطات رئيسة ، في عرضهم لوقائع الاضطهادات التي جرت  بين 64 و311 ، قبل ان تعرف المسيحية نوعا من الهدنة او السلام المؤقت،  لكي تستأنف موجات  الاضطهاد بعد ذلك التاريخ في ما يمكن وصفه بحروب الردة  الى الوثنية ،  ثم الحروب الداخلية المتبادلة بين ابناء الكنائس المسيحية ذاتها .حروب وصدامات  توزعت على مدى التاريخ المسيحي في الالفيتين الاولى ثم الثانية . هذا ما عدا عن الحروب الخارجية التي شنها المسيحيون على الآخرين ( الحروب الصليبية مثالا )  . يمكن تحديد هذه المحطات كالتالي :
- اولا : في عهد نيرون ( 66- 68) - ثانيا : في عهد دوميسيانوس ( 91) ، ثالثا : في عهد تراجان (98-113) - رابعا : في عهد ادريان ( 117-138) وأنطونان التقي ( 118-138) ، ومارك اوريل ( 161-180) - خامسا : في عهد سبتيموس ساويروس ( 193-211) -  سادسا : في عهد مكسيمينوس الاول او التراقي (235-238)، سابعا : في عهد داقيوس ( 249-251)- ثامنا : في عهد فاليريان ( 254-260) - تاسعا : في عهد ديوكليسيانوس ( 284-305) وخلفائه (303) ومكسيميان دايا (305)- عاشرا : في عهد قسطنطين واعلان ميلاتو ( 313 ) - حادي عشر : ما بعد قسطنطين ، يوليانوس الجاحد والردة الى الوثنية - ثاني عشر : الكنيسة والدولة : من واقع الكنيسة في الدولة الى واقع الدولة في الكنيسة
الى المحطات العشر أضفنا محطتين أخريين حيث اتخذ الاضطهاد شكل صراع متبادل بين مسيحيين ، او شكل نظام مسيحي ضد آخر مختلف ، وذلك خلافا لروح الانجيل ومبادئه السامية . حاولنا ، مع تحديد ابرز محطات الاضطهاد الذي مورس سواء من قبل السلطات الحاكمة على الجماعات المسيحية في القرون الارعة الاولى ، أم  بتأثير عائد الى  اختلاف في عقليات الشعوب وعاداتها الاجتماعية والثقافية ، حاولنا القاء الضوء خصوصا على الاسباب التي ادت الى الاضطهاد ، وعلى مواقف السلطات الرسمية من خلال القرارات التي اعلنتها والتشريعات التي سنتها لهذه الغاية .
- اولا : في عهد نيرون ( 64- 68) :  قبل سنة 64 لم تكن المسيحية قد حظيت بعد باعتراف رسمي من قبل مجلس شيوخ الدولة  ، لا  بكونها جماعة جديدة ولا  بكونها ديانة شرعية ( ( Religio Licita . يطلق عليها المؤرخ تاسيت في حولياته صفة "  خرافية " Superstitio) ) . ألأمر الذي يعني انها  كانت في البداية خارج  دائرة القوانين ، وغير مشمولة  برعاية الدولة  لا سلبا ولا ايجابا  . ولكن على أثر الحريق الذي وقع في ضواحي روما وأتى على قصر نيرون راحت الانظار تتحول نحو المسيحيين ، بوصفهم الحلقة الضعيفة التي اشار اليها نيرون نفسه بالاصبع تبريرا منه لتهمة  توجهت اليه اولا ، ثم الى الجماعة اليهودية التي كانت تحظى بنفوذ لدى السلطة . كان نيرون يريد توسيع نطاق قصره،  لذلك افتعل الحريق ، ثم اتهم به الآخرين . منهم من عزا تسليط الاتهام على الجماعة المسيحية بسبب التنافس الذي كان قد بدأ يظهر بين أتباع الديانتين الشقيقتين ، وتصاعد نفوذ أبناء الدين الجديد . لذلك كان الاضطهاد  النيروني اول اضطهاد ،  أعلن بقرار رسمي ،  مستهدفا المسيحيين في اطار الدولة الرومانية . كان من أبرز ضحايا الاضطهاد النيروني الرسولان بطرس وبولس . بغض النظر عن المبالغة في حجمه وعدد ضحاياه ، ( من بينهم عمودا الكنيسة القديسان بطرس وبولس ) ومشاهده الدرامية ، على ما  نقلته الينا صفحات التاريخ ، يعزي بعض المؤرخين حقيقة  ألاسباب الرئيسية  لهذا الاضطهاد الى الاسقاطات النفسية وسوء فهم حقيقة مبادىء المسيحية وطقوسها من قبل الشعب الروماني الوثني . أسباب ستتوضح اسبابها ومظاهرها في المراحل اللاحقة ، وستتم ترجمتها بنوع خاص من خلال مواقف السلطة الحاكمة والقرارت والتشريعات الرسمية  التي رافقتها . السؤال الذي سيبقى مفتوحا ، والذي تطرحه اليوم بصورة ملحّة ظاهرة الاضطهاد في عالمنا المعاصر، وما يرافقها أحيانا من مواقف بطولة وقداسة دفاعا عن قيم مقدسة : هل من المقبول بعد ، في ظل الحقوق التي نصت عليها الشرعة العالمية لحقوق الانسان ( 1948 )  وملحقاتها ، أن تستمر تشريعات بعض الدول ، ناهيك  عن سياساتها،  في استمرار تكريس التمييز الديني والعنصري والطبقي وممارسة الارهاب باسم الدين ؟ كما كان يحدث في المجتمعات القديمة التي يشير اليها هذا البحث ؟
ثانيا : في عهد دوميسيانوس ( 93) : ظهر اضطهاد المسيحيين في العهد الدوميسياني في اطار ملاحقة خاصة استهدفت طبقة من المفكرين مثل الرواقيين (Stoiciens ) وفئات من المواطنين الرومان الاحرار ، ممن  كانوا يمتازون بأفكارهم ومواقفهم الاخلاقية  والمبدئية الصلبة أمام قضايا السياسة والحياة والوجود . من هذه الناحية شمل الاضطهاد المسيحيين أيضا لأنهم يلتقون مع الرواقيين وغيرهم من اهل الفكر والمبادىء في ما يتعلق بالحرية الفكرية والمواقف الاخلاقية التي تتميز بالشجاعة  في مواجهة الظلم والفساد  . مواقف كانت تعتبر بنظر الامبراطور دوميسيانوس ( تاسيت ، تاريخ  1، 1) من نوع الجريمة الوطنية . الى تاريخه لم تكن الاوامر الرومانية القانونية  الرسمية قد صدرت بوضوح وبصورة مطلقة بحق المسيحيين ، الا بدءا من عهد تراجان وأدريان بين  (107- 138).
ثالثا : في عهد تراجان ( 98-113 ) : يعتبر مومسن ( Momsen ) ان اول قرار رسمي صدر عن السلطة الرومانية بحق المسيحيين ، وضمن شروط ،  كان في سنة 112 ، وقد وجهه تراجان الى بلين الصغير ( Pline Le jeune  ) حاكم مقاطعة بيتينيا والمؤرخ المعروف . بموجبه تم الاعلان على انه لا يجوز ملاحقة المسيحيين الا بناء على : " شكاوى تتعلق بالحق العام " : الخيانة – تحقير السلطة – التمرد على أحكام القضاء  ، المشاركة في اجتماعات محظورة ، القيام بأعمال سحر وغيرها . لم  يحدد القرار الامبراطوري نوع العقوبات التي ينبغي انزالها بالملاحقين قضائيا من المسيحيين ، كما لم يعطها بعد صفة التعميم المطلق ، تاركا للقضاة نسبة معينة من الصلاحية في تحديد الجريمة والعقوبة المناسبة لها . في الاجراءات التي حددها تراجان كان محظورا  على القضاة تعقب المسيحيين من دون سبب وجيه . ولكن عندما كانت توجه شكوى ما بحق احدهم كان  يطلب من مقدم الدعوة أن يرفقه  بنص مكتوب . وفي حال ظهر ان التهمة  باطلة ، كان على مقدم الدعوة أن ينال عقوبة توازي تلك  التي  كانت ستصدر بحق المشتكى عليه . الا ان معدلات مشاعر الكريستيانو فوبيا ، إن جاز التعبير ، كان يتأرج بين التشدد والتسامح في الاوساط الشعبية  وفقا  لارتفاع معدلات  الديموغرافيا في الاوساط المسيحية . لم تكن الوثنية بطبيعتها متشددة من ناحية التمييز الديني ، كما يمكن ان يظن ، لأن الكهنة الوثنيين لم يكونوا متطلبين من الناحية اللاهوتية ، فكانوا يتقبّلون من دون تعقيد مختلف العقائد على تعددها . لذلك اذا كان من حالات للتذمر الوثني من الغرباء (  (Xenophobia فإن الشكاوى كانت غالبا ما تعزى الى تصرفات اليهود اولا،  ثم تطلق بعد ذلك على المسيحيين ، باعتبار ان الجماعتين هما متوازيتان بالنسبة الى مشاركتهما في المرجع والتعاليم . أما الشكاوى الاساسية والمباشرة فكانت تتعلق بالأجتماعات الليلية التي كان يلتقي فيها المسيحيون للصلاة ، والتي اسيء فهمها من قبل المجتمع الروماني الوثني ، الذي كان يرى فيها  مناسبات  تتخللها أفعال مخلّة بالاداب العامة ،  وتقديم ذبائح تتكوّن أضاحيها من اجساد الاطفال ، واكل لحوم البشر ، وغيرها من طقوس مستغربة وسحرية صادمة لأبسط ألأخلاق والمشاعر الانسانية .  هذا من الناحية الدينية ، اما من الناحية الوطنية والسياسية  فقد كان يتم تفسير تصرفات المسيحيين على أنها ترجمة للأنعزالية واللامبالاة بالقضايا الوطنية ، وازدراء الاديان ألاخرى وطقوسها ، ولا سيما منها عندما يرفض المسيحيون  المشاركة في تقديم الذبائح وفق العادات الوثنية في الهياكل،  تكريما للآلهة ، أو بمثابة عربون ولاء لشخص الامبراطور ، رمزالدولة ، او تعبيرا عن محبتهم للوطن . مجموع هذه الاحكام المسبقة والاوهام المتفاعلة في الوجدان الشعبي الروماني العام  كانت من شأنها أن تؤدّي، في ظروف الحروب والويلات الطبيعية ، الزلازل وحالات الجفاف وغيرها ، الى تفسيرهذه الظواهر على انها تعبير عن غضب الالهة حيال الممارسات التي تدمر هياكلها . أضف الى ذلك الشغف العام والمتعة التي كان الشعب الروماني يجدها في اللقاءات العامة فوق الملاعب وما يرافقها من مشاهد دموية يُقدَم في أثنائها المحكوم عليهم بالاعدام طعاما للوحوش الضارية . لذلك لم يكن من خارج التقاليد الرومانية المطبوعة بالسادية إخضاع المسيحيين المحكوم عليهم بجرائم نص عليها قانون تراجان ، لكي يكونوا في عداد الضحايا التي يزج بها في الملاعب وحلبات المصارعة ، تلبية لأشباع غرائز الجمهور الذي تستهويه مشاهد العنف . في عهد تراجان  كانت المرة الاولى التي يشار فيها الى الاحوال الشخصية ، إذا جاز التعبير ،  العائدة  للمسيحيين تحديدا . تواصلت هذه السياسة القضائية حيال المسيحيين في عهدي أدريان وانطونان التقي ، وبقيت مرهونة في التطبيق الى حد كبير بمزاجية القضاة والظروف الاجتماعية والسياسية السائدة .
رابعا : في عهد أدريان ( 117- 138) : لم يضف الامبراطور أدريان أي تدبير خاص في سياسته على الاجراءات التي سبقه الى وضعها الامبراطور تراجان . عاد فصدّق على قرار سلفه في ما يتعلق بالصيغة القانونية التي كان قد سبقه الى تحديد مضامينها وشروط تطبيقها ، وأبدى اكثر ميلا لأرضاء المشاعر الشعبية عندما أوضح أنه ينبغي على كل مسيحي تثبت عليه الادانة ان يتم تسليمه الى الشعب الروماني الذي بات صوته اكثر ارتفاعا لمعاقبة المخالفين للقوانين . هذه السياسة عينها جرى على متابعتها خلفيفة  الامبراطور انطونان التقي الذي حكم بين 118 الى 138 وغيره .. من ضحايا الاضطهاد الذي جرى في ايام تراجان وأدريان وانطونين : القديس سمعان اسقف اورشليم ، ومار اغناطيوس الانطاكي ، البابا كليمنضوس ، البابا سيكستوس ، و مجموعات من الضباط والجنود في الجيش الروماني .
خامسا : في عهد الامبراطور مارك أوريل ( 61-180) : جدّد مارك أوريل القرارت التي كانت قد صدرت في العهود السابقة لعهده . ونظرا للكوارث الطبيعية ( فيضان نهر التيبر –Tibre ونهر  بو PO ) التي وقعت في عهده اضطر الى تلبية  مطالب الشعب الروماني الملحة ، للاقتصاص من المسيحيين  الذين يعود الى تصرفاتهم سبب غضب الالهة. فكانت اكثر المناطق تعرضا لهذه الموجة من الاضطهاد مدن  : أزمير ، روما، فيينا ، ليون . الى ذلك رأى الامبراطور الرواقي في الدين الجديد والصاعد ، لما تضمنته بعض عقائده اللاهوتية والاخلاقية  ( المتضاربة مع العقل ومنطق الطبيعية ) ضربا من الجنون . لذلك لم يتساهل في سفك دمائهم ، مستهدفا بدرجة اولى فئة الفلاسفة واللاهوتيين . كان من بينهم القديس جوستينوس وتلامذته ( سنة 165). في اواخر القرن الثاني ومع اطلالة طلائع الغزوات البربرية على حدود الامبراطورية تشددت الاوامر الرسمية  في شأن حماية الحدود، من خلال اتباع سياسة ضبط الأمن واختبار ولاء الشعب للسلطة عبر سن قوانين جديدة  ، من أجل الفرض الالزامي  في تطبيق الطقوس الخاصة بتكريم الالهة والتعبير عن الولاء للامبراطور بالنسبة  لجميع المواطنين في كل أنحاء الامبراطورية .  أمام هذه الاوامر المتشددة كان على المسيحيين المخلصين ان يواجهوا التحدي :  قبول أكليل شهادة الدم من أجل  الحفاظ على وديعة الايمان أم لا !.
خامسا : في عهد سبتيموس ساويروس ( 193-211) : بدأ عهده متعاطفا مع المسيحيين . بعد انتصاره على خصومه في غرب الامبراطورية وشرقها ، ونودي به امبراطورا سنة 193 ، ونال تأييد أبناء قومه في فينيقيا ( لبنان وسوريا لأنه من أصول سيرو فينيقية تعود به الى عرقا في شمالي لبنان ، ومتزوج من ابنة رئيس كهنة حمص ، ووالد الامبراطور كراكركلا . ونال تأييد أبناء صور له امام خصمه نيجر قائد الشرق ) ، أصدر مرسوما ملكيا في السنة التاسعة من حكمه مؤرخا في فلسطين سنة 202 حرّم فيه اعتناق الدين المسيحي . تضمن قرارات دامية تم تنفيذها بشدة وامتدت مفاعليها الى مصر وقرطاجة وبلاد الغال . في عهده نال اكليل الشهادة آلاف المسيحيين في مناطق الامبراطورية كافة شملت مصر وقرطاجة ( تونس ) وبلاد الغال ( فرنسا ) . كان من بين ابرز الوجوه التي نالت اكليل الشهادة :  في الاسكندرية الخطيب ليونيد والد اللاهوتي الشهير اوريجينوس (الذي استشهد بدوره لاحقا في مدينة صور في عهد داقيوس)  ، القديس ايريناوس في ليون – فرنسا ، البابا فيكتور في روما ، السيدتان بربيتوا وفيليسيتيه  ( Perpetue , Felicite) في قرطاجة . الا ان التأثير الشرقي الذي دخل الى البلاط الامبراطوري مع الاسرة الساويروسية قوى نفوذه مع الزمن ليصبح في عهد فيليبوس العربي (من مواليد السويداء – سوريا (244-248) ، اول امبراطور مسيحي ( بحسب اوزيب القيصري مؤرخ الكنيسة الاول ) . إن ما ييدعم أرجحية هذا القول كون اوزيب القيصري من المقربين الى قسطنطين . الى هذا يُستنتج من سيرة القديسة بربيتوا (Perpetue )  ان أبناء هذه المنطقة لم يتعرضوا كثيرا  للأذى  في عهد سبتيموس ، نظرا لمولده او اقامته فيها مدة من الزمن . ابتداء من هذا العهد بدأ المسيحيون ينشرون الكتب والرسائل المتعلقة بسيرة الشهداء ويخصونهم بالتكريم ، كما بدأ النفوذ في السلطة  يتحوّل لصالح الدين الجديد بعدما تم أعلانه في ما عرف لاحقا ب " أعلان ميلانو"  سنة 313.
سادسا : في عهد مكسيمين الاول التراقي    Maximin  (235-238 ) : خطة  هذا الامبراطور التي استغرقت ثلاث سنوات قامت على قاعدة " اضرب الراعي فتتبدد الخراف " . لذلك كان اول ما قام به نفي البابا بونسيان –  Pontien ( 233- 237 ) الى سردينيا ، حيث تعرض للاهانة بالضرب حتى الاستشهاد ، ثم اتبعه بالبابا أوتيروس ( 237- 238 ) وبالعديد من الرعاة الاساقفة والكهنة والشمامسة. وقام بهدم الكنائس . بعد موت مكسيمين عرفت الكنيسة نوعا من الهدنة إثر ما اشرنا اليه - في المقطع السابق-  من تصاعد للنفوذ الشرقي السيرو فينيقي داخل البلاط الامبراطوري .
سابعا : في عهد الامبراطور داقيوس  ( 249- 251 ) :  في ظل حكم الامبراطور داقيوس شهدت المسيحية احدى اشد موجات الاضطهاد ، حين اتخذ الاضطهاد شكلا منظما ومبرمجا تمثل بانتهاج سياسة التهجير والامساك المتشدد بزمام الشؤون العسكرية والسياسية ، تحسبا من تفاقم خطر الغزوات الغوطية على الحدود . لذلك أصدر مرسوما سنة 250 يأمر بموجبه جميع رعايا الامبراطورية لكي يقدموا الذبائح تكريما لروما وللامبراطور . وذلك أمام قضاة مكلفين بمتابعة هذا الاجراء وتحت طائلة المسؤولية . على ان يمنح كل مواطن أدى هذا الواجب " شهادة حسن سلوك "  LIBELLUS   )) ، بما يتيح للسلطة السياسية ، من خلال هذا الامتحان تصنيف المواطنين بين من  مخلصون  للنظام وبين من هم  خارجون عليه ،  بحيث يحكم على هؤلاء  عقوبة السجن او الموت او غير ذلك من العقوبات المتنوعة.  ألأمر الذي اتاح بتصنيف المؤمنين الى عدة فئات :
مقدمو الذبائح – Sacrifici  ، مقدمو البخور - Thurificati   ، مسلّمو الكتب المقدسة لأحرافها  - Traditores  ، ساقطون في الامتحان قبل أن يتراجعوا عن خطأهم او منزلقون  – Lapsi ، مشترو شهادات حسن السلوك عن طريق الرشوة او الاحتيال – Libellati  ،  مرتدون الى اديانهم السابقة أو جاحدون  - Apostats ، معترفون - Confesseurs مؤمنون حقيقيون  – Martyrs  الذي يقبلون الامتحان بكامل ارادتهم .
شهد هذا العهد ظاهرة جديدة تمثلت بنزوح جماعات عديدة من المسيحيين هربا من المدن والاماكن الآهلة للاعتصام في الجبال والبراري  بعيدا عن أعين مراقبة السلطة .كانت سياسة  داقيوس الجذرية ترمي الى تحطيم المسيحية تحطيما كاملا ، في ردة فعل منه على سياسة فيليبوس العربي المسايرة لها ، فلم يكتف بمعاقبة معتنقيها كما فعل تراجان مثلا ، بل ذهب الى أبعد من ذلك عندما أتخذ منهجا راديكاليا يقضي بتعميم الاضطهاد فوق كامل اراضي الامبراطورية . تعميم يقضي بملاحقة معتنقي المسيحية  اينما وجدوا ، ُثم إكراههم بالقوة على التخلي عن ايمانهم المسيحي . ذريعته الاساسية في هذا النهج هو ان المسيحية ، كدين ومنهج حياة ورؤية ، تشكل خطرا على المجتمع والدولة . من هنا اتخذت الاضطهادات العامة عنده شكلا جديدا غير مسبوق ، بحيث أنه يصبح لزاما على المسيحيين ان يختاروا بين حلّين لا ثالث لهما : إما الجحود ومن ثم النجاة بالحياة ، إن كانوا ضعفاء في الايمان ، راغبين في الحفاظ على المواطنية الرومانية ، من جهة ،  وإما ان يختاروا التمسك بإيمانهم المسيحي ومن ثم الموت ، إن كانوا راسخين وثابتين في ايمانهم المسيحي . حالة شبيهة بتلك التي ستشهدها الجماعات المسيحية في بعض الظروف في ظل الدولة الاسلامية ، وكما تشهده ايامنا الحالية في الحرب التي تخوضها " الدولة الاسلامية ، داعش " في العراق وسوريا وليبيا وتركيا وغيرها من الدول الاسلامية المعاصرة.  تابع غالوس  ( Gallus - 250-253-) نهج سلفه داقيوس . ثم خلفه فاليريان ( 253-260 ) الذي بدأ متسامحا مع المسيحيين لينتهي معهم اكثر شراسة من أسلافه .  ثم شهدت السياسة الرومانية نوعا من الهدنة حيال المسيحية دامت 14 سنة ( 260- 274 ) في عهد كل من غاليان  Galien   (260- 268  ) وأوريليان  Aurelien   ( 270- 280 ) . في أثنائها أعيدت الاملاك المصادرة الى مالكيها المسيحيين ، في ظل انتشار غير مسبوق للمسيحية  كمّا ونوعا في مختلف أنحاء الامبراطورية وبخاصة في بلاد ما بين النهرين وأرمينيا .  في تلك الهدنة أصدرغاليان أمرا امبراطوريا  يقضي بإعادة الاملاك المصادرة الى مالكيها من المسيحيين الذين هم في شركة مع أسقف روما وجميع أساقفة أيطاليا . ولكن لم يطل الزمن لتعود السلطة الرومانية الى سياستها السابقة في شد الخناق على المسيحيين ، في عهد ديوقليسيانوس (285- 305 )  الذي يطلق عليه  بحق  " عصر الشهداء ".
ثامنا: في عهد فاليريانوسValerien-   ( 257-258 ) : بعدما بدأ متعاطفا مع المسيحيين تراجع فاليريوس عن سياسته ليعود الى اسلوب سلفه . شهد  اول عهده ( 254-260 ) نوعا من الهدنة ما لبثت أن انقلبت الى أشد مما كانت عليه ،في العهدين السابقين .  (داقيوس وغالوس Gallus   -251-253 ). وذلك بسبب حاجته الى  أموال المسيحيين  لتغطية نفقات الحروب التي كان عليه ان يخوضها تصديا للغزوات  الجرمانية في الغرب والهجومات الفارسية في الشرق . فأصدر إعلانا بمصادرة أملاك المسيحيين ، مرفقا اياه بإعلان آخر ينص عل إخضاع جميع رجال الدين المسيحيين لإستجواب سريع وقاطع يجري بنهايته  إعدامهم في حال تمسكهم بدينهم  .هكذا ألقي القبض على البابا Felix القديس والشهيد أثناء  قيامه بالقداس الالهي في دياميس روما والقديس كليستوس مع أربعة من الشمامسة . وفي الاطار عينه حكم بقطع الرأس على القديس قبريانوس في افريقيا ، والعديد غيرهم من الشهداء في مناطق مختلفة من الامبراطورية . لم تتوقف هذه الموجة من الاضطهاد الا بانهزام فاليريانوس في الشرق في حرب طاحنة بينه وبين الملك الفارسي  شهبور . بعد ذلك ( 260) شهدت الكنيسة نوعا من الهدنة دامت 14 سنة في عهدي غاليانوس واوريليانوس ( 260-274 ) استعادت  في أثنائها  املاكها . أصدر غاليانوس إعلانا يقضي بإعادة أملاك المسيحيين ممن هم بنوع خاص في شركة مع أسقف روما واساقفة ايطاليا .  مما أتاح للمسيحية انتشارا أوسع من السابق في مختلف أنحاء الامبراطورية وخارجها ، وبنوع خاص في بلاد ما بين النهرين وأرمينيا . لكن بعد ذلك سيكون عهد ديوقليسيانوس من أشد العهود قساوة على المسيحية .
تاسعا : في عهد ديوقليسيانوس (284- 305 ) : عصر الشهداء
يُعرف الاضطهاد الذي شنه ديوقليسيانوس على المسيحية ب " الاضطهاد الكبير " ، في زمن كانت المسيحية قد بلغت فيه نموا وانتشارا واسعين . بحيث كان قد بلغ عدد أبنائها ، وفقا لبعض الاحصاءات ، خمسة ملايين من مجموع ستين مليونا هو مجموع قاطني الامبراطورية الرومانية . في ذلك الاطار التاريخي والحضاري كان ديوقليسيانوس قد اقتسم الامبراطورية ، في اطار صيغة حكم متعدد الرأس   ( Tetrarchie) ، بينه وبين مكسيميان دايا ، محتفظا لنفسه بإدارة أقليم الشرق ، ومتخذا من غاليريوس معاونا له ، تاركا لشريكه الآخر مكسيميان حكم أقليم الغرب ،  بمعاونة كونستانس كلور والد قسطنطين الكبير الذي  سيكون مطلق الحريات الدينية ومؤسس الدولة المسيحية .
في سنة 303  أملت على ديوقليسيانوس مزاجية  شريكه في الحكم ، غاليانوس ، بإصدار مرسوم يقضي بهدم جميع الكنائس القائمة فوق ارض الامبراطورية ، كما بإحراق جميع الكتب المقدسة التي هي بحوزة المسيحيين ، وبإقصاء هؤلاء عن جميع الادارات الرسمية ، وحرمان العبيد المسيحيين  من التحرر . ثم ألحق هذا المرسوم بثلاثة مراسيم أخرى ، نص الاولان منها على الزج بالاساقفة في السجن وإخضاعهم للتعذيب بهدف حملهم بالقوة على الجحود بدينهم . فيما  نص المرسوم الثالث على تطبيق هذا الاجراء على جميع المسيحيين فوق اراضي  الامبراطورية . فأدت مفاعيل هذه الاوامر الملكية الى اضطهاد واسع لم ينج  منه إلا منطقة الغال ، في حين شهدت أقاليم الشرق اشرس حملات الاضطهاد ، مما جعل عهد ديوقليسيانوس يطلق عليه بحق " عصر الشهداء " ، كما أشرنا . نصت قرارات ديوقليسيانوس على اربع أجراءات كبرى : 1- هدم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وحرمان المسيحيين من الحقوق المدنية ، 2- الزج برجال الكنيسة في السجون ، 3- انزال اشد العذابات بالكهنة الذي يرفضون القبول بتقديم الذبائح للآلهة ، - 4- أكراه الشعب المسيحي على تقديم الذبائح تحت طائلة الموت .
منذ العام 303 توالت  المراسيم أو القرارات الرسمية  القاضية  بتشديد الاضطهاد على المسيحيين منها :
 - قرار 24 شباط 303 حرّم عقد الاجتماعات الخاصة بتلاوة الصلوات ، وأتاح هدم الكنائس ومصادرة الاواني والكتب المقدسة تمهيدا لأتلافها ، كما أمر بإسقاط الحقوق المدنية عن الموظفين والجنود المسيحيين ، و بحجب الترقيات عنهم ما لم يتخلوا عن أيمانهم والجحود به. كان لهذا الاضطهاد الممنهج مفاعيل جد مأساوية أدت الى استشهاد مجموعات عديدة في صفوف  ضباط وعناصر  الفرق العسكرية ، في مختلف مناطق الامبراطورية .  ( بخاصة في الدانوب وروما وأفريقيا)  .نص القرار أيضا على واجب تقديم الذابائح  للالهة من قبل جميع سكان الامبراطورية  بدون استثاء ، بدءا بالمسؤولين الرسميين وموظفي الدولة وأفراد عائلاتهم . الامثلة على ذلك عديدة . على سبيل المثال ، في مدينة صور اللبنانية استشهد رئيس ادارة الضرائب ( ادوكتوس ) ورئيس معمل الارجوان ( دوروتاوس )  ، ووقع الاعتداء علة  جميع كهنة المدينة وشمامستها .
 - في سنة 305 صدر اعلان رسمي آخر يعرف ب " مرسوم مكسيميان دايا " تم توزيعه في جميع مناطق الامبراطورية . في بعض المدن تم نقشه على أعمدة من نحاس توزعت في شوارع كبريات المدن   ، ومنها مدينة صور على سبيل المثال .
-  بالاضافة الى القرارت الحكومية ، كانت تصدرعن سكان بعض المدن عرائض معادية للمسيحين تتضمن تحريضا  عليهم . الامثلة على ذلك عديدة  في انطاكية وصور ، كما يروي شاهد عيان ( اوسيب القيصري في كتابيه " التاريخ الكنسي " و" شهداء فلسطين " ) . مجموعات عديدة من المسيحيين ، من مختلف الاعمار والفئات الاجتماعية والدينية والعسكرية ، كان يزج بها في السجون ، قبل أن تُقدًم فوق حلبات المصارعة والملاعب العامة طعاما للوحوش الضارية .
شكلت حملة الاضهاد التي جرت في عهد ديوقليسيانوس احدى اشد الحملات ، لكنها مهدت لحدث تاريخي كبير هو صدور اعلان ميلانو (313) . من العجب أن السلطة التي أصدرت تلك المراسيم القاسية عام 303 كانت هي نفسها التي تراجعت عنها في في 30 نيسان 311 ، على أثر مرض عضال ألمّ بالامبراطو كونستانس كلور والد قسطنطين الذي اليه سيعود والى والدته القديسة هيلانه ، الفضل بإطلاق الحرية الدينية وإرساء المداميك الاولى في بناء الدولة المسيحية ، مع أعلان ميلانو . فما أن توفي  قسطنطين كلور حتى نادى الجيش الروماني بابنه قسطنطين . وكان افتتاح عهد جديد .
في عهد ديوقليسبانوس تفاقمت ظاهرة التمرد في أوساط الفرق العسكرية على اوامر قياداتها مما ادى الى استشهاد مجموعات عديدة .  منهه على سبيل المثال: مجموعة جنود طيبة ( المصرية ) في جبال سويسرا وايطاليا . مما ادى بالقيادات في نهاية هذا العهد الى  الاعتراف بالعجز امام قوة المسيحية الصاعدة . خلال هذه الحقبة من التاريخ الروماني كانت الوثنية قد استنفذت معظم طاقاتها  في الضغط لأخراج المسيحية من دائرة الوجود . ولكن بنهاية حكم ديوقليسيانوس اعترف شريكه في الحكم غاليريوس ( سنة 311 ) بالعجز عن إخضاعها  وتقليص وهج إشعاعها .  مما حمله الى اعلان مرسوم يقضي بضرورة التساهل   (Tolerance)  مع أتباعها  . فلم ينقض على اصدار هذا القرار اكثر من سنة حتى صدر اعلان آخر مشترك مع القائد ليسينيوس يقضي بالكف عن مضايقة المسيحيين ، تمهيدا لمنحهم الحرية الدينية  الكاملة لاحقا .  ذلك لأن اعلان 311 لم ينص على حرية دينية عامة إذ بقي محظورا على الوثنيين اعتناق المسيحية ،  بانتظار صدور قرار آخر بعد عامين من ذلك كان أكثر انفتاحا على المسيحية هو "اعلان ميلانو"  التاريخي . بموجبه ، وبصورة رسمية ، اوقف الاضطهاد الموجه ضد المسيحيين نهائيا ، بموازاة  اطلاق حرية الدين لجميع المواطنين في الامبراطورية ، مشكلا بذلك أول وثيقة مسكونية ( عالمية ) يتم الاعتراف بموجبها بالحق الجوهري والأساس في  منظومة  حقوق الانسان ، الا وهو الحق بحرية الدين والمعتقد .
مرسوم ميلانو في شهر شباط 313 ، قبله وبعده : بعد أن ثبت للسلطة الرومانية الحاكمة بأن لا فائدة من متابعة الاضطهاد بحق المسيحيين قررت  انتهاج سبيل التسامح ( Tolerance )  معها . لذلك التقى قسطنطين وليسينوس في مدينة ميلانو – أيطاليا وأقرا    للمسيحيين الحق في ممارسة طقوسهم الدينية بحرية تامة ، شأنهم شأن أتباع جميع الديانات في الامبراطورية . بقي قسطنطين في مرجلة أولى على مسافة واحدة من الجميع ، تحت شعار" كل إنسان حر في ما يملي عليه ضميره "   .وبالرغم من أنه لم  يعلن اعتناقه المسيحية وقبول المعمودية الا على فراش الموت (سنة 337  ) فإنه قدم مساعدات وتسهيلات عديدة للمسيحيين : مساعدات مالية ، ترميم وبناء كنائس ،  أعفاء الاكليروس من الخدمة العسكرية والضرائب وغيرها . وما لبث أن تحوّل النظام مع الزمن من مدافع عن المسيحية الى الى مضطهد لغير المسيحيين ،  عندما منع الوثنيين من إقامة الذبائح للالهة في الهياكل ، وهدمها أحيانا ( هيكل أفقا ) وأمر بإتلاف كتب الفلاسفة ممن تتعارض أفكارهم مع العقائد المسيحية ، ( فورفوريوس الصوري)  . الى ذلك أصدر عدة قرارت وتشريعات ساهمت في تيسير وتنظيم حياة المسيحيين ، منها  : أعلان يوم الأحد يوم عطلة رسمية ، يوم الشمس Sunday , Soles Invictus  Dies ( سنة 321 ) - أعتماد تقويم جديد  بموجبه حلّ الاسبوع ( سبعة أيام) محل  التاسوع ( تسعة أيام)  - أقرار  الاحتفال الرسمي بأعياد الميلاد والفصح والعنصرة والصعود والميلاد - . منح الاساقفة صلاحيات للمشاركة في التشريع المدني ،( سنة 332)  وإعتاق  العبيد بموجب إعلان يصدر منهم داخل الكنيسة . كما صدرت أوامر تلغي ممارسات قديمة مسيئة الى المسيحيين تمهيدا لتكريس حقوق إنسانية كاملة :  الحظر على اليهود من ممارسة الرجم بحق من يعتنق المسيحية – منع بيع ألاطفال – إلغاء عقوبة الصلب – إلغاء عادة المبارزة بالسيوف -  حق المساجين بمشاهدة نور الشمس -  في هذا العهد بدأ المسيحيون يطلقون على  أولادهم أسماء الشهداء ، ويضاعفون من الطقوس والكتابات الخاصة  بتكريم الشهداء .  هذا النهج القسطنطيني الجديد أتاح للأمبراطور ، مع الايام ، التدخل في شؤون الكنيسة التنظيمية والعقائدية ، من خلال أتخاذه المبادرات الملكية في الدعوة الى عقد المجامع الكنسية المسكونية والاشراف عليها ، ( مجمع نيقيا سنة 225 ، وملحقه مجمع صور- لبنان 335 سنة ) ، وخاصة بعد أن أقام عاصمته في القسطنطينية ( اسطمبول ) في آسيا الصغرى ( تركيا اليوم ) .
من الايجابية بمكان  أن اعلان ميلانو المشار اليه قد وفر للمسيحيين الحرية الدينية وأعاد اليهم ممتلكلتهم وسائر حقوقهم المسلوبة، ومهّد لترسيخ أوضاع أكثر ملاءمة لتوطيد دعائم الدين الجديد داخل الامبراطورية ،  إلا ان الامر لم يدم طويلا ،  إذ أن لسينيوس نفسه لم يف بوعده ، فعاد بعد مدة قصيرة الى سابق عهده ، فطرد من قصره  افراد حاشيته المسيحيين ووجه الأوامر الى جنوده بواجب تقدمة الذبائح في الهياكل ،( استشهاد مجموعة الجنود الاربعين في البحيرة - أرمينيا سنة 320 ) ، واحتجز الاساقفة والكهنة .
حادي عشر : خلفاء قسطنطين الكبير  :
من كنيسة داخل الامبراطورية الى امبراطورية داخل الكنيسة ( Cesaro- Papisme) و من الاضطهاد الى الاضطهاد المضاد ، عهد جوليانوس الجاحد نموذجا ،
إ ن نقطة التحوّل التي سجلها إعلان ميلانو وما رافقه من تحسين لأوضاع المسيحيين داخل الامبراطورية ،  رافقتها قوانين وإجراءات نقلت المسيحية من أوضاع  كانت تتلقى فيها الاضطهاد من الآخرين الى نظام يمارس الاضطهاد على الآخرين . نذكر منها ما يلي :
- سنة 337 -  قانون يمنع الزواج المتبادل ( Mariage Mixte ) بين المسيحيين واليهود  ، باعتباره جريمة يعاقب عليها القانون .
- سنة 339 – قانون أصدره الامبراطور تيودوسيوس الكبير ينص على ان  الارتداد الى اليهودية هو جريمة يعاقب عليها ، كما اباح  القانون عينه تدمير المجامع اليهودية والمعابد الوثنية.
- 528 - بعد إعلان المسيحية دينا رسميا للدولة أقر الامبراطور جوستينيان ( 527- 564 ) قانونا يمنع بناء المجامع اليهودية وقبول شهادة اليهود ضد المسيحيين أمام المحاكم .
- سنة 535 – أقر مجمع كليرمونت مرسوما يقضي بمنع اليهود من تولي  الوظائف العامة او ممارسة أي سلطة على المسيحيين .
- 613- فرض على يهود اسبانيا الاختيار بين إثنين : إما اعتناق المسيحية وإما مغادرة البلاد .
- 692 – تلت القوانين الواردة أعلاه قوانين أخرى تمعن في المقاطعة والعزل والاقصاء ، حتى باتت اليهودية ديانة محظورة . قبيل انطلاقة الحروب الصليبية ، فرض على أتباعها في سينودس هيرونا ( 1078) بدفع الضرائب .
- بين 1096 و1291  ، كان معظم  شعوب الشرق من جميع الاديان والمذاهب – باستثناء قلة –  هدفا  للحروب الصليبية  .وما جرى في القدس بحق سكانها المسيحيين من الكنائس غير اللاتينية ومن اليهود والمسلمين لا يختلف كثيرا بطابعها الوحشي عما شهده العالم في زمن الفتوحات الاسلامية ، وفي العصور اللاحقة في زمن المماليك والعثمانيين ،ولا ننسى عصر محاكم التفتيش الكنسية في اوروبا ، الى دموية الثورة الثورة الفرنسية ، وصولا الى  الحربين العالميتين ، وما رافقها كلها من ارتكاب المجازر وأعمال الإبادات الجماعية في تركيا العثمانية وألمانيا النازية بما يندى له الجبين. جرائم لا تختلف عما تتناقله في ايامنا وسائل الاعلام الحديثة عن جرائم داعش واخواتها من الحركات التي تدعي تطبيق أصولية الشريعة الاسلامية .التاريخ يقدم لنا أمثلة عديدة عن تنكر الشرائع والممارسات غير الانسانية  لأبسط الحقوق الانسانية .
 بالعودة الى خلفاء قسطنطين نجد أن المسيحية راحت تتحرر تدريجا من حالة الضحية في الاضطهاد الى حالة الجزار أحيانا ، خلافا لتعاليم السيد المسيح ورسله ، وتعاليم الآباء  ، ومن حالة قتال الغير في حالات مشروعه ، الى حالة الاقتتال الاخوي الداخلي الذي لا يمكن تبريره في أي شريعة  . في هذا الاطار يمكن القول إنه بعد الضربات الاولى التي وجهها قسطنطين الى الوثنية استطاع أبناؤه من بعده ( 337-3610 ) الى ازالتها  من معظم أراضي الامبراطورية ، ما عدا  الاسكندرية وروما وأثينا حيث ظلت المسيحية ديانة غريبة . وفي عهد تيودوسيوس وغراسيانوس ( 375-383 ) أصبحت هي الديانة الرسمية والالزامية ، بعدما تم ألغاء ما كان قد تحقق من طابع للحرية  الدينية وفقا لسياسة قسطنطين الكبير . ومع مجيء يوستينيانوس الى السلطة ( (529 ) جرت اعادة النظر بالقوانين المتعلقة بحرية المعتقد وألغيت منها  إلغاء كاملا ، بحيث أجبر الجميع على اعتناق المسيحية . لكن الوثنية بقيت على صلابتها الى زمن الفتح الاسلامي ( 622) حين قضي عليها قضاء شبه كامل .
في ضوء تلك المعطيات يمكن للانسان المعاصر أن يفهم فهما أكمل لمندرجات الشريعة الاسلامية ، في اطار ما يجري في أيامنا من أحداث ومواقف يدعي أصحابها تبرير الارهاب ( الجهاد ) والتمييز بين البشر على اساس ديني ( الذمية ) والتعايش على قاعدة المساواة في المواطنية ( رفض مبدأ التبادلية )  وغير ذلك من حقوق الانسان الاساسية .( الشرعة العالمية لحقوق الانسان 1948 ، مقارنة مع مندرجات الشريعة الاسلامية ) . هذه الاشكالية تعود في أيامنا لتطرح بصورة حادة على ضمير الجميع ، سواء في الدول ذات النظام الاسلامي ، أم في الدول ذات الطابع الديقراطي والعلماني. هل يمكن التوفيق بين الشريعة الاسلامية وشرعة حقوق الانسان ؟    
ثاني عشر : عهد يوليانوس الجاحد ، الاضطهاد في حالات  الردة ، الأقتتال  تحت سقف البيت الواحد  :
"يا للمفارقة كان يتمتع بصفات القديس المسيحي بما فيها الطهارة " ( كلود فوكيه )
" غلبتني ايها الناصري ! " 
شكل عهد جوليانوس الجاحد محطة خاصة ضمن محطات الاضطهاد التي استهدفت المسيحيين في القرون الاربعة الاولى . لأنه كان اضطهادا من داخل البيت القسطنطيني بعد سنوات قليلة على انطلاقة الدولة المسيحية . يصح في هذا العهد تسميته ب "حرب الردة " ، على صورة ما عرفته انطلاقة الدين الاسلامي ، وما رافقها من اقتتالات بين أهل البيت الواحد . يمكن اعتبار خروج جوليانوس عن دين عمه قسطنطين وابن عمه كونستانس بمثابة ردة الفعل ضد النهج الدموي الشديد الذي تزامن مع بناء الدولة المسيحية ، بدءا بتصفية المنافسين من الاقرباء ومن بينهم والد يوليانوس  (يوليوس قونسطانس) ، وشقيقه (غالوس) بحجة المؤامرة على ابناء العم  . اختبر جوليانوس العنف الاهلي باكرا في  حياته . اغتيل والده على يد عمه الامبراطور فيما كان لا يزال هو طفلا في السادسة من عمره . بعد ان شب تم نفيه وأخاه الذي ما لبث ان أغتيل هو ايضا على يد ابن عمه . لكنه  تمكن ، بفضل ذكائه ، من تحصيل مستوى رفيع من ثقافة عصره على يد وبرفقة كبار من الفلاسفة واللاهوتيين ، في أثينا وانطاكية وباريس ، من بينهم الفيلسوف ليبانيوس وغريغوريوس النزينسي ، باسيليوس القيصري ، يوحنا ذهبي الفم وغيرهم . حالما انتهت اليه السلطة ( 361-363 )  أصدر مرسوما يعلن فيه حالة التسامح مع أتباع جميع الاديان ، وسعى في الوقت نفسه الى أقامة هيكلية  كهنوتية  وثنية ، على غرار الهيكلية  الكنسية ، بهدف إحياء وتنظيم الوثنية واعلانها دينا وطنيا يكرّم " الاله الشمس " . في مقابل هذه السياسة المشجعة للوثنية ولليهودية  ، بحيث أصدر أمرا يعلن فيه  المساواة بين اليونانيين واليهود واعدا هؤلاء  بإعادة بناء هيكل سليمان ، أنتهج سياسة سلبية ومضادة باتجاه المسيحيين .فأصدر قرارا يمنع بموجبه التلامذة المسيحيين من تحصيل الثقافة اليونانية ، لاغيا بذلك حرية التعليم  ،بما فيه  تدريس مواد الصرف والبلاغة والفلسفة الى التلامذة المسيحيين . كتب " ضد الجليليين " أي المسيحيين . واعاد الاعتبار الى كل من لهم مصلحة بتحجيم المسيحية . أمر بأن يعاد بناء الهياكل الوثنية على نفقة الاساقفة .
خليفة قسطنطين مؤسس الدولة المسيحية كان الوحيد في عائلته ممن لم يعتنقوا المسيحية .  قادته ظروف المواجهة مع الفرس للمجيء الى فارس عبر سوريا ، المعبر شبه الدائم  للحروب الدولية ،  كما هو الحال اليوم .عند مروره في أنطاكيا اصطدم بالشعب المسيحي الذي نبذه . ثم تابع حملته العسكرية  الى قطيسفون عاصمة بلاد فارس حيث كان عليه ان يتواجه  مع ملكها شابور .عن أستاذه ليبانيوس ورد انه قتل في المعركة نتيجة للجروح التي أصابته  جراء طعنة سددها اليه احد الجنود المسيحيين ، ونسب اليه صرخته الشهيرة قبل مفارقته الحياة  وهو في الثلاثين من عمره :  " غلبتني ايها الناصري " .هل اعترف جوليانوس الجاحد بالايمان المسيحي في اللحظة الاخيرة من حياته ؟. وبالتالي هل يمكن القول أنه كان مؤمنا بحقيقة المسيحية وخصوصا بأخلاقيتها الجديدة ،القائمة على المحبة ؟ جوليانوس لم يكن مؤمنا بمن كانوا يمثلونها في السلطة ، أمثال عمه قسطنطين واولاده . لكنه " كان يتمتع بصفات القديس المسيحي بما فيها الطهارة " كما يقول فيه أحد المؤرخين المعاصرين كلود فوكيه  :
[ «  Sa pensee loin d'etre uniquement retrospective était fastement impregnee de christianisme , et que l'interpretation qu'il donnait de la pensee antique était proche de celles des peres de l'Eglise ,ses condisciples a Athene , tels que Gregoire de Naziance , Basile de Cesaree , et aussi de Jean Chrisostome, rencontre a Antioche .Curieusement il avait les qualites d'un saint chretien : Chastete comprise .C'est sur le modele de l'Eglise qu'il chercha a federer les cultes paiens , qui avaient toujours  été independant jusque –la «.] Claude Fouquet  « Julien, ou la mort du monde antique « , Edit. L'Harmattan 2009 (https://www.herodote.net/Julien_l_Apostat_331_363_-synthese-628.php)


أختم هذا البحث بالعودة الى الحاضر مع البابا فرنسيس لننظر الى واقع المسيحية الراهنة متسائلا معه : هل كانت المسيحية  في عصورها الاولى  اكثر عرضة للاضطهاد ، كما يظن ، بالمقارنة مع أيامنا الحضرة ؟
"في ايامنا الحاضرة امامنا مسيحيون مضطهدون أكثر من القرون الاولى " . عبارة ترددت مرارا على لسان قداسته ، كما قالها في 30 حزيران من السنة الماضية في مناسبة الاحتفال ب " ذكرى اول شهداء المسيحية في روما ، ممن  نالوا اكليل الشهادة في اول موجة من الاضطهاد على يد نيرون  سنة 64." واضاف : " صحيح أن عدد الشهداء المسيحيين في عهد نيرون كان كبيرا  ، ولكن عددهم اليوم لا يقل عن الماضي . .. لنفكر بمسيحيي الشرق الادنى الذين يضطرون الى  الهرب من أمام الاضطهادات ،  وبهؤلاء المسيحيين الذين يستشهدون على ايدي المضطهدين . لنفكر ايضا بأولئك المسيحيين المطاردين بطريقة هادئة وبقفازات بيضاء .هذا أيضا يسمى إضطهادا " .









.
















lundi 3 octobre 2016

ترحيب مسبق بمزار السيدة أم النور فوق تلة ضهر العاصي في عين إبل -ايلول 2011


"انظر فما أدرك بصرك فهو مقدس" ( ابراهيم الخليل )
ملاحظة : كُتبت هذه الصفحة في ايلول 2011، ولم تنشر في حينه بانتظار المناسبة الملائمة . أعود اليها اليوم فيما عين ابل والجنوب اللبناني على موعد تاريخي  هو الاحتفال بوضع حجر الاساس لمزار " سيدة أم النور " الذي سيترأسه غبطة البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي بعد ايام ( السبت 15-10-2016)  : تركز هذه الصفحة على مكانة السيدة مريم العذراء في الموروث الايماني اللبناني في "الحوار المسيحي  -الاسلامي" . وذلك قبل ان يُعرف عيد البشارة وينتشر الاحتفال به عيدا وطنيا في السنوات القليلة الماضية . مع الاشارة الى اننا كنا قد وضعنا بحثا  بالانكليزية على موقع سيدة عين ابل الالكتروني حول  الموقع الجغرافي لتلة ضهر العاصي ورجّحنا فيه وقوع التلة المشار اليها في محاذاة الطريق الرومانية التي كانت ممتمدة في زمن السيد المسيح  بين بحيرة طبريا في فلسطين ومدينة صور اللبنانية مرورا بالقرى والبلدات اللبنانية الحالية ، كما تظهرها الخريطة المرفقة بهذا الموقع الالكتروني . 
مشروع مقام السيدة العذراء مريم ، "أم النور " ، المزمع بناؤه فوق ربوة في أرض عين إبل في جنوب لبنان ، نتوقّّع أن يحظى بترحيب وتقدير  مشترك من ابناء مختلف الكنائس والطوائف في لبنان. لقد نجح القيمون على هذا المشروع في  طرح الفكرة في ظرف وموقع جغرافي مناسبين،  مستلهمين قيما روحية وتراثية ووطنية سامية ، ليس بوسع أي أحد أن يعترض عليها مهما كانت النزعة والانتماء.
وفي وقت تعمل الدولة اللبنانية لكي تكرّس يوم عيد البشارة الواقع في 25 اذار \ مارس عيدا وطنيا رسميّا ، وفق ما تم الاعلان عنه خلال السنة الفائتة (2009)، فذلك يعني أن العيد الذي ستحتفل به جميع المكونات اللبنانية المسيحية والاسلامية على حد سواء ، قد يكون له مدلول خاص بالنسبة لمن يكرمون "أم النور" ، في منطقة حدودية  تضم أتباعا من الاديان التوحيدية ، ولا سيما منها المسيحية والاسلامية. وفي حال تم الاعلان عن ( تكريس ) هذا العيد فعندئذ يجدر  بالمنطقة أن  تكون اول من يرحب ويفيد من هذه المناسبة  الفريدة والثمينة، باعتبارها ذكرى من ذكرياتها التاريخية العزيزة في  " جليل الامم" و "بلاد بشارة" ، التي قال فيها  انجيل متى مرددا مع النبي اشعيا متنبئا عن أي نور سيثعّ على المنطقة والعالم في مولد السيد المسيح : "الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نورعظيم" . (متى 16:4) . وكما يتنبأ أيضا عن أم المخلص المنتظر: "قومي استنيري فان نورك قد وافى، ومجد الرب اشرق عليك. ها ان الظلمة تغشى الأرض والديجور يشمل الشعوب. ولكن عليك يشرق الرب ويتراءى عليك مجده. فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء اشراقك... مجد لبنان يأتي اليك. السرو، والسنديان، والشربين، جميعاً لزينة مقدسي، وامجد موطيء قدمي." ( اشعيا 60 : 1 – 3 و 13)                                                          
من يجهل أي  مكانة رفيعة ل "عيسى وأمه مريم" في الاسلام؟. هذا ما نقترح القاء الضوء عليه في ما يتعلق بالنصب ( المزار ) التذكاري الذي نحن بصدده  ، لكي تأتي إقامته تعبيرا عن لقاء التراث والايمان المشتركين لدى جميع أبناء لبنان والمنطقة.
عن حقيقة هذا التراث المشترك عبّر المجمع الفاتيكاني الثاني عام   1965 ، وللمرة الاولى في  تاريخ العلاقات بين الكثلكة والاديان الاخرى تعبيرا صريحا، في سياق رؤية ونهج جديدين من الاصلاح والانفتاح على قضايا العالم المعاصر . ومن بينها بنوع خاص العلاقة مع أبناء الدين الاسلامي : " تنظر الكنيسة بتقدير الى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحي القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والارض وكلّم الناس...وإنهم ، على كونهم لا يعترفون بيسوع ابن الله، يكرمونه نبيا، ويكرمون أمه العذراء مريم مبتهلين اليها بإيمان... والمجمع يحث الجميع على نسيان الماضي ، والعمل باجتهاد صادق في سبيل التفاهم ، وأن يعززوا ، من أجل جميع الناس ، العدالة الاجتماعية ، والقيم الروحية ، والسلام والحرية" ( راجع:المجمع الفاتيكاني الثاني ، علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية ، المكتبة البولسية-حريصا 1992 - ط 1،ص ، 628 وما يلي ).
من جهته يعبّر الاسلام عن تقديره ل "عيسى المسيح ابن مريم" في نصوص عديدة وأشكال متنوعة. منها تخصيص مريم بسورة قرآنية (سورة مريم ،19).وهذا امتياز كبير في نظر الاسلام ، فضلا عن أن مريم هي الامرأة الوحيدة التي يذكرها بالاسم كتاب الاسلام الكريم، خاصا اياها بعدد كبير من الايات في سور اخرى ومنها "سورة التحريم" التي تقدم مريم مثالا في الايمان:
 "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا (.... ) مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ " (سورة التحريم 66 : 11-12) ، و في  "سورة آل عمران" يذكر الكتاب "آل عمران" من بين الذريات  المختارة عند الله ، كما يصف مريم المتحدرة منهم والمنذورة  منذ ولادتها لله تعالى، بأنها مقبولة لدنه قبولا حسنا .فلما وضعتها امها امرأة عمران ( القديسة حنة) قالت :".. وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فتقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب" (سورة  آل عمران 33:3-37)

بالاضافة  الى هذه النظرة الايجابية  والصورة المثالية التي يقدمها الاسلام عن مريم  ، يتوقف  تاريخ الفتوحات الاسلامية على واقعة تعبر عن عميق التقدير الذي يكنه نبي الاسلام محمد بن عبدالله لكل من عيسى وأمه مريم . روى الأزرقي ،  أحد  مؤرّخي مدينة مكة ، أن النبي لما دخلها فاتحا ، عام 630 ميلادية ، كانت دعائم الكعبة مزينة  بصور الانبياء وصور الشجر ولوحات تصور الملائكة على صورة نساء جميلات وصورة حمامة منحوتة على الخشب.وكان هناك  أيضا صورة تمثل عيسى بن مريم وأمه.. فلما دخل الرسول البيت أرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب ليأتي بماء زمزم ، ثم أمر بثوب فبلّ بالماء، وأمر بطمس تلك الصور فطمست ...ولكنه وضع كفّيه على صورة عيسى بن مريم وأمه وقال : امحوا جميع الصور الا ما تحت يديّ . فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه." 
( راجع أخبار مكة ج1 ص 104 : ، جواد علي ، تاريخ العرب ج5 ص 172). ( راجع أيضا:- تاريخ الكعبة ، علي حسني الخربوطي، دار الجيل ، لبنان1976 ص،143- المسيحية والحضارة العربية، أ. جورج قنواتي، دار الثقافة ، القاهرة ، 1992، ص 83)
 تبين هذه البادرة أي تقدير فائق خص به الاسلام كلا من السيد المسيح وامه مريم ، معتبرا إياهما "آية للعالمين "( سورةالانبياء 21:91) ، واصفا مريم بأنها مثال في الايمان (سورة التحريم 66 : 11-12)  وافضل نساء العالمين: "وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. " ( آل عمران: 42 و43). فيفترض أن ينطوي ذلك  على تقديم قدوة ينبغي أن يأخذ بها الجميع في الحاضر كما كان يؤخذ بها في الماضي .
وكم ينطبق توصيف آية من "سورة المؤمنون" (23:50) على الموقع الذي سيجثم فوقه تمثال العذراء في عين إبل :"وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ"، أي الى تلة ذات واد وعين ماء .
هذه الشواهد وغيرها هو مما لا يحصى ولا يعد عن مظاهر هذا التقدير والاكرام .وهذا ما ينبغي أحياؤه معا في منطقة الجنوب لكي يبقى مثالا في الايمان المتجسّد في ثقافة العيش معا بروح السلام والتآخي.. فالعين إبليون كانوا يلمسون ذلك في الماضي عندما كان أبناء البلدات  والقرى القريبة والبعيدة غالبا ما يشاركون كل سنة بكل خشوع في مناسبة عيد السيدة في زياح العذراء مريم.
ومن الجدير ذكره في هذا الصدد أنه في سنة 1954 حين قامت رابطة الاخويات بتنظيم تطواف وطني  لتمثال سيدة لبنان ،المنحوت من خشب الارز، الى مئات القرى والبلدات اللبنانية  ومنها عين إبل، انبرى عدد من شبان الطائفة الشيعية الكريمة في بلدة يارون ليشارك في حمل التمثال ، طالبين من أبناء عين إبل أن يمنحوهم الاولوية في حمله قائلين :"لكم أن تكرموها في صلواتكم داخل الكنائس، ولنا أن نكرمها بحملها على رؤوسنا . مش كل يوم بدها تجي لعنّا" .
 يومها أيضا  أبى أبناء عيتا الشعب الا أن يستقبلوا تمثال العذراء في بلدتهم بقوس النصر والتصفيق والزغردة ورش الارز والملبس والزهور ومسح المناديل بالتمثال تبركا به مرددين:"السلام على اسمك سبحان العاطيكي". في هذه الاجواء الروحية والوطنية العارمة ، صعد  الشيخ محمد عبدالله  الى السيارة التي كانت تحمل التمثال فألقى باسم  أهالي البلدة خطابا مؤثرا قال فيه  : "سلام على السيد المسيح وليد السيدة النفيسة العصماء ، آية الله الكبرى ورسوله الأعظم...بوركت من أم سعيدة وبورك الله الذي اصطفاك وبورك سيدنا عيسى الذي ولدته. ما للنور يشع ؟ وما لنجوم السماء تلمع؟ ذلك لأن المسيح غشاها فأعطاها كمالها الساطع".
يومها أيضا استقبلت مدينة بنت جبيل تمثال العذراء استقبالا مهيبا ، إذ رفعت قوس النصر وقامت بتزيين شارعها الرئيسي وتقاطر سكانها ، يتقدمهم رئيس البلدية وأعضاؤها وفرقة الكشافة ، ترحيبا بمرور العذراء في مدينتهم ، فيما كات النساء "يمطرن الموكب بوابل من الملبس والكراملا ويملأن الفضاء زغردة ".( راجع :الطريق المريمي ، الاب جورج خوري ، 1998، ص ، 121- 135عن تقرير كان قد وضعه للمناسبة المرحوم المعلم بطرس بركات دياب )
هذه الوقائع  والمعاني والذكريات المستمدة من التراث الايماني المشترك ،المحلي والوطني  معا، نرجو أن تؤخذ بالاعتبار لدى تقديم هذا الاثر التذكاري الديني الجليل المزمع اقامته في عين إبل، والذي يٌرجى أن يخاطب مخيلة أبناء جميع الاديان  التوحيدية في لبنان والعالم ، ويحرك قلوبهم باتجاه الوحدة والسلام ، بعيدا من أي شعور لا يتسم الا بثقافة الايمان والروح الوطنية الصافية.
من موقع "ضهر العاصي" في عين إبل ، من أرض جنوبي لبنان، يمكن ان تتجلى صورة التمثال والمزار ، لا
  في الذاكرة 
المحلية وحسب، بل في الذاكرة العالمية أيضا.هذا ما نأمل أن تكون عليه   لجنة المشروع من وعي مسبق  و تعمل 
له يكل حكمة وبعد نظر ودراية ، لكي يأتي النصب التذكاري المريمي على قدر الطموح ، ( بحيث يؤمل
 ادراجه في مشروع اوسع هو مشروع "على خطى المسيح في جنوب لبنان") فيصح عندها الانشاد مع
 سليمان النبي الحكيم   عن العروس الآتية من جنوب لبنان:" هلمى معى من لبنان يا عروسى، من
 لبنان هلمى، أنظرى من رأس امانة ، من رأس سنير وحرمون، من خدورالأسود وجبال النمور
( نشيد الاناشيد 4|8)، وعن العريس ( المخلص الفادي )  " طلعته كلبنان وهو مختار كالأرز
( نشيد الاناشيد 5\15.من فوق تلة  " عين الحرية" ز عند ذاك يحق للناظر، كيفما نظر هناك الى الافاق
 البعيدة، أن يردد قولا منسوبا الى ابي جميع المؤمنين، ابراهيم الخليل:" أنظر فما أدرك بصرك فهو مقدس".
جوزف توفيق خريش ، بييروت – لبنان 14 ايلول ، يوم عيد الصليب

jeudi 4 octobre 2012

Jesus Path - South Lebanon

يتمحور البحث حول الاجابة على السؤال التالي
ما كانت أبرز المحطات في رحلات المسيح الى جنوب لبنان والبقاع ، وما كانت الظروفوالأهداف التي أحاطت بها.  مقاربة يتتّبع فيها البحث المسارات التي سلكها السيد المسيح، إستناداً الى النصوص الكتابية البيبلية والى كتابات مؤرخين وباحثين وتقاليد ومرويات محلية

على دروب الإيمان مع يسوع

في جنوب لبنان والبقاع
بقلم جوزف خريش



"نحن هنا في المنطقة التي وطئتها منذ الفي سنة  قدما السيد المسيح مخلص العالم.
 يخبرنا الكتاب المقدس أن يسوع جال مبشرا في ما وراء حدود فلسطين في تلك الايام وأنه زار أيضا منطقة المدن العشر – وبالأخص صور وصيدا- مجترحا فيها المعجزات.
أيها اللبنانيون واللبنانيات إن ابن الله نفسه كان اول من بشّر أجدادكم. فإن هذا لامتياز عظيم... لا يمكننا أن ننسى أن صدى كلمات الخلاص التي نطق بها يوما في الجليل قد بلغت باكرا الى هنا ( أي بيروت).... إن كتّاب العهد القديم  غالبا ما توجهوا  في كتاباتهم نحو جبال  لبنان وحرمون الماثلة أمامهم في الأفق.فلبنان هو بلد بيبلي ..  "
 البابا يوحنا بولس الثاني أثناء زيارته التاريخية للبنان سنة   1997 ( من كتاب 32 ساعة ، ص 124)

".. إن لبنان يزخر بالمعالم الدينية وبالمزارات التاريخية والأماكن التي تكتنز قيما مقدسة لدى مسيحيي العالم أجمع،التي من شأنها أن تؤمن إليه دفقا دائما وعلى مدار السنة من الزوار الخارجيين إن أحسنت الحكومة تطويرها والترويج لها وأذكر من هذه المزارات على سبيل المثال لا الحصر،المزارات التاريخية والعجائبية للسيدة العذراءالسيدة مريم عليها السلام،التي تمثل كما تعلمون جميعا، نقطة التقاء بين الديانتين السماويتين: المسيحية والإسلام....والأهم الأهم، أن من شأن هذه السياحة،التي تثبت أبناء لبنان وبناته في أرضهم،أن تثبت أيضا لبنان الرسالة، مكانا دائما للقاء الأديان والحضارات وللحوار بينها والبحث عما يجمعها ونبذ ما يفرق بينها، على مستوى العالم، تماما كما نحن نريد للبنان أن يبقى مكانا للعيش المشترك والمناصفة الدائمة بين المسيحيين والمسلمين من أبنائه."
( من كلمات رئيس الوزراء اللبناني ٢٠٠٩)
   لبنان الغنيّ بتراثه الديني والثقافي يستحق المزيد من بذل الجهود للكشف عن معالمه العديدة والمتنوعة  ، بهدف تعميق الوعى بقيمته الدينية والجضارية ، ومن ثم أيجاد السبل  الملائمة  لأحيائها واستثمارها في مشاريع ثقافية وسياحية وإنمائية تعكس صورة لبنان الرسالة  الحقيقية والثمينة ، بما يخدم الحوار  بين الاديان والحضارات ويعزز القيم الوطنية والانسانية الشاملة والسامية.
في اطار هذا المبدأ يشكل هذا البحث محاولة متواضعة لمقاربة موضوع له أهميته، في الظروف الراهنة، يتعلّق بينابيع الإيمان، فوق الأرض اللبنانية، مستفيدا في تحليله من بعض ما  انتهت اليه دراسات وابحاث واكتشفات أثرية من نتائج في العقود الماضية ، ومن تنامي الوعي  بأهمية التراث الوطني اللبناني  لدى عدد من  المؤسسات الرسمية والاهلية ، الوطنية والعالمية ..
يتمحور البحث حول الاجابة على السؤال التالي : ما كانت أبرز المحطات في رحلات المسيح الى جنوب لبنان والبقاع ، وما كانت الظروف والأهداف التي أحاطت بها . مقاربة يتتّبع فيها البحث المسارات التي سلكها السيد المسيح، إستناداً الى النصوص الكتابية البيبلية والى كتابات مؤرخين وباحثين  وتقاليد ومرويات محلية.
 يمكن حصر هذه المسارات  في المحطات والمواقع الجغرافية التالية :

1)                       بين يارون و قانا، طلّة اولى على ربوع لبنان ووجوه العهد القديم
2)                       بين صور والصرفند ،ايمان الكنعانية العظيم
3)                       في صيدا ، بين الانتطار والعبور الى التجلي
4)                       من صيدا الى حرمون وسفوحه ،موقع التجلي وبداية درب الصليب
5)                       على طريق موطن اقرباء يسوع  وموطن احباء الله

1 -   بين يارون و قانا  ، طلّة اولى على ربوع لبنان ووجوه العهد القديم :
يشير عالم الكتاب المقدس الفرد دوران، في بداية القرن العشرين، الى ان رحلة السيد المسيح في ارض لبنان الحالية تبدأ من نقطة تقع قرب بلدة يارون، المحاذية من جانبي الحدود لمجموعة من القرى والبلدات المتعددة الأديان والمذاهب، بين مدينة صفد ومنطقة بنت جبيل، ومن بينها  بلدة الجش (جيسكالا) التي هي بحسب بعض المؤرخين (جيروم) مسقط رأس عائلة بولس الرسول، وعلى مسافة قريبة منها مدينة "قادش" القديمة (المالكية اليوم)، أولى "مدن الملجأ" التي كان يشوع بن نون (1296 ق.م ؟ )  قد دعا الى اقامتها حماية للمضطهدين في زمانه  ،الى بلدات أخرى عديدة في الجوار.
من موقعيّ يارون ومارون الراس ، حيث جرت معارك مصيرية حديثا وقديما ، يطل السائح على مواقع غنية بالذكريات البيبلية، وعلى مشاهد طبيعية جميلة، بحيث ينحدر الطريق من هناك الى واديين يؤدي كل منهما ،عبر سلسلة من المرتفعات والأودية، الى قانا وصور. ينحدر الوادي الأول غربا بإتجاه عين ابل ورميش ودبل والقوزح، ليصعد الى ياطر وكفرا وصديقين فقانا. أما الوادي الثاني فينعطف شمالاً من يارون الى عين ابل وبنت جبيل وكونين وبيت ياحون وتبنين وحريص، وقد يمّر ايضاً في دير انطار.
في قانا تشير المكتشفات الأثرية الى معالم يثبت عدد من علماء الكتاب المقدس، أنها هي قانا الجليل اللبناني حيث حوّل السيد المسيح الماء الى خمر أثناء عرس كانت السيدة العذراء مريم حاضرة فيه مع عدد من التلاميذ (يوحنا 3/1-10) بينهم سمعان القانوني ، نسبة الى قانا (؟).

في جوار تبنين حيث تقع قلعة صليبية تضم بين أسوارها كنيسة على اسم السيدة العذراء مريم، ينقل التقليد ان السيد المسيح وقف عند تلة مطلة على منظر جميل يشمل جبل حرمون شرقاً ومدينة صور غرباً، متأملاً في أمجاد ماضيها ومصيرها  كما سبق وتأمل النبي حزقيال وتنبأ لمدينة صور  بالخراب بسبب خطاياها (حز 27 و 28).
عند ذلك الموقع ، الذي قد يكون "دير انطار" ، قرب قرية "السلطانية" (التي اكتسبت اسمها الجديد منذ سنوات بعدما كانت تحمل اسم "اليهودية ") ، يمتد مشهد بانورامي جميل يضم في لوحة واحدة شبه جزيرة صور العائمة كصخرة على وجه المياه في البحر المتوسط  غربا ، من جهة ،  وجبل حرمون المنتصب شرقا مكلللا بالثلج على مدار الفصول الاربعة ،من جهة أخرى. تشير المرويات والتقاليد ( راجع الاب ضو ) الى وقفة وقفها المسيح هناك متأملا في ماضي صور وفي جذوره البشرية فيها، وهو "الكلمة  الذي صار بشرا". جذور تصله بجدّه العشرين "يورام" (متى 1\8) زوج عتليا الحفيدة المشتركة لكل من الملك العبري أخاب ( 874-853) والملك الصوري ايتوبعل الاول من خلال ابنته ايزابيل زوجة أخاب (1ملوك 16/31). الملكة  ابنة صور هذه والجدّة العليا ليسوع كانت قد انتهجت سياسة لم تخلٌ من تعصب قومي وديني عندما حاولت في القرن التاسع قبل الميلاد أن تفرض  على الشعب اليهودي طقوسا وعبادات فينيقية وثنية ، مما ادى الى نشوب ثورة بقيادة النبي ايليا  الجلعادي التشيبي (3 ملوك 17\1)  فقتلها متحمسون من أنصاره داخل الهيكل صونا لديانة الاله الواحد في وجه آلهة البعل (بعاليم) .  

يشير النص الانجيلي ان السيد المسيح كان عندما يتجول في أرض الوثنيين لم يكن يسلك طرقا مألوفة بل يتجول  متخفياً اكثر الاحيان عن الانظار (مرقس 7/24). إلا ان اسمه وعجائبه التي كانت تسبقه وتذيع صيته في كل مكان من المنطقة  لم تكن لتتيح له الاحتجاب عن أنظار الجموع التي يقول عنها النص الانجيلي  انها كانت تتقاطر اليه طلباً للشفاء والاستماع الى أقواله ،آتية اليه من كل مناطق  فلسطين وسوريا وخصوصا " من حول صور وصيدا" (مرقس 3/8، لوقا 6/17). وبعبارة " رحل الى جهات صور وصيدا "  (متى 15/21) يشير الرسول متى  الى اكثر من رحلة واحدة قام بها السيد المسيح متجولاً ومتوغلاً، للإختلاء في الجليل الاعلى ولبنان والتأمل مع عدد من تلاميذه المختارين ، تخّصا من مطاردة اعدائه له، وخاصة بعد مقتل يوحنا المعمدان.

تشكل قانا محطة رئيسة على طريق يسوع داخل جليل الامم ، كما تشكل محطة اولى في إعلانرسالته العالمية ومجده أمام الناس ، من خلال معجزة تحويل الماء الى خمر في " عرس قانا الجليل " .وقانا ، بعد شهادة كل من مؤرخ الكنيسة الاول اوسابيوس القيصري 265-340) والقديس جيروم من القرن الخامس  وفرنشيسكو سوريانو حارس الاراضي المقدسة في القرن الخامس عشر والبطريرك مكسيموس الخامس حكيم  هي  "قانا واحدة وهي الان في لبنان" (م.ب. رونكاليا ، "على خطى بسوع المسيح في فينيقيا- لبنان" 2007، ص 134). تستحق قانا  الجليل اللبنانية  هذه وقفة طويلة ومعمقة لا من السياحة الدينية فقط  بل من التاريخ الديني والثقافي بصورة عامة. فمعالمها ناطقة بأحداث منقوشة على صخور وادي عاشور وأجرانها ومغارتها التي تذكّر بقانا العرس الانجيلي، وبقانا "مدينة الملجأ" حيث كان المسيحيون الأولون يتوارون عن الأنظار هرباً من ألإضطهاد، غداة استشهاد اسطفانس طليعة الشهداء عام 34 وفق ما جاء في  كتاب  أعمال الرسل "أما الذين تشتتوا من جراء الضيق الذي حصل بسبب اسطفانوس فاجتازوا الى فينيقية" ،الى الفترات الحرجة من الحرب الرومانية اليهودية والحملات التي شنتها عليهم السلطة الرومانية خلال القرون الثلاثة  الاولى بعد اعلان البشارة على الاقل.
في كتابه الموثق اثبت الباحث الايطالي مرتينيانو رونكاليا هذه الوقائع، ومن بينها ان يسوع زار قانا مرتين : الأولى في اذار عام 28 حين اجترح معجزته الأولى، والثانية في آب من السنة نفسها حين شفى ابن احد الضباط الرومان وآمن به الرسول نتنائيل. ان كتاب رونكاليا الغنيّ بالمعلومات التي يقدمها عن علاقة قانا وجنوب لبنان بالكتاب المقدس تستحق وقفة طويلة عندها ، لأنها تسلط الضؤ على احداث تستندالى  مصادر معرفية لا تعرف عنها الثقافة اللبنانية الحالية إلا النذر القليل.

     2 -  بين صور والصرفند ،ايمان الكنعانية العظيم:
لا تؤكد النصوص الكتابية ان السيد المسيح دخل مدينة صور بالدرجة عينها من تأكيد دخوله مدينة صيدا : " ثم مضى من هناك وذهب الى نواحي صور وصيدا فدخل بيتاً" (مرقس 7/24) أو " ثم خرج من تخوم صور ومرّ في صيدا " (مرقص 7/31). غير ان هناك اكثر من تقليد متوارث اثبتته كتابات المؤرخين الاولين ، مثل اوسابيوس القيصري والقديس جيروم وغيرهما، مفاده ان السيد المسيح استراح عند " رأس العين " بقرب مدينة صور وتناول طعاماً عند ذلك الينبوع وشرب منه. وعند احدى بوابات صور كان المسيحيون الاولون ، الى العهد الصليبي، يكرمون صخرة كان يقف السيد المسيح فوقها ليعلّم الناس. (لبنان في حياة المسيح، بطرس ضو، 1980، ص 6-265).
عند مشارف صور او قريبا من الصرفند ، وقد يكون الموقع الملوّح اليه هو عدلون، شفى السيد المسيح ابنة المرأة الكنعانية او السيروفينيقية، الناطقة باليونانية للدلالة على وثنيتها من جهة وعلى  انتمائها الفينيقي الصوري تمييزا له عن الفينيقي القرطاجي- من جهة اخرى-  بالنسبة لذوي الثقافة الرومانية اليونانية  ( متى15/21 –28 ومرقس 7\24-30) . كانت تلك السيدة قد سمعت ان السيد المسيح دخل هناك بيتاً، فجاءت مسرعة تستغيث به طالبة الشفاء لأبنتها. أمام اصرارها تعجّب يسوع من ايمانها فقال لها :" ما اعظم ايمانك ايتها المرأة، فليكن لك ما تريدين " (مرقس 7/21 – 28). ذٌكر في كتابات القرن الثالث ان تلك المرأة كان اسمها يوستا، اي عادلة أو عدلاء، واسم ابنتها بيرينيق  ( في الميامر المنسوبة الى القديس كليميس).

في طريقه من صور الى صيدا، مرّ السيد المسيح في الصرفند، (وهي " صارفة صيدا" وتعني مصهر الزجاج) ورد اسمها في مواعظ المعلم الالهي  اكثر من مرة في معرض ذكره للعلاقة بين  النبي ايليا وأهل الصرفند، ومعربا عن تقديره لإيمان اهل صيدا وصور ومشيدا بايمانهم عندما قال : " ان صور وصيدا تكون لهما حالة اكثر إحتمالا يوم الدين" ، مقارنة بحال بعض المدن اليهودية التي كانت قد عاينت الآيات وسمعتها ولكهنا لم تؤمن كما آمن اهل صور وصيدا (لوقا 10/13 – 14).
في عظة اخرى القاها السيد المسيح في الناصرة، ذكر أيضا  " صارفة صيدا "، مشيداً بإيمان اهلها ايضا : "ارامل كثيرات كنّا في اسرائيل في ايام ايليا حين حدث جوع عظيم... ولم يبعث ايليا الى واحدة منهن الا الى صارفة صيدا، الى امرأة ارملة "(لوقا 4/5 -26) انقذها ايليا وعائلتها من الجوع (3 ملوك 17/8 – 24).يومها تفوّهت الأم اللبنانية بكلام عبّر عن ايمان عظيم بآيات النبي إيليا، وماثل الى حد بعيد الكلام الذي نطقت به بعدها بحوالي ثمانية قرون ابنة وطنها يوستا (عادلة) الكنعانية السيروفينيقية، معلنة هي ايضا عن "ايمانها العظيم" : " الآن علمت انك رجل الله حقاً وان كلام الرب في فيك حقا" (3 ملوك 17\24).
جدير بالذكر ان التقاليد المسيحية  (والاسلامية من بعدها عبر العصور) ذكرت ايليا النبي، فشيدت في الصرفند  كنيسة تخلد ذكرى اقامة ايليا فيها واحسانه الى اهلها. وفي مدينة الصرفند لا يزال يوجد حتى اليوم مقام على اسم "الخضر"، وهو عبارة عن مزار يقصده الحجاج من مختلف المذاهب. يشير المؤرخون اليه على انه المكان الذي كان يقع فيه بيت الأرملة التي زارها النبي ايليا وشفى ابنها. (لبنان في حياة المسيح، بطرس ضو، 1980، ص 268).

3 – في صيدا ومغدوشة سيدة المنطرة وجوارها ، بين الانتطار والعبور الى التجلي:
   إن مرور السيد المسيح ورسله في صيدا ثابت في النص الانجيلي بصورة صريحة : " ثم خرج من تخوم صور ومر في صيدا " ( مرقس 7/31 ومتى 15/21 – 29 ). وكذلك يثبت النص المقدس إقامة بولس الرسول في كل من صور وصيدا بضعة أيام : " مكثنا هناك سبعة ايام " ( أعمال الرسل 21/4 ) و " أقبلنا الى صيدا فعامل يوليوس (الضابط الروماني) بولس بالرفق وأذن له ان يذهب الى اصدقائه (الصيداويين) ليحصل على عناية منهم " ( أعمال الرسل 27/3 )
الى ذلك هناك تقليد قديم اشارت اليه القديسة ميلاني من اواسط القرن الرابع ( 343-410 ) بقولها انها رأت في صيدا بيت المرأة الكنعانية التي شفى السيد المسيح ابنتها. وقد تحول هذا البيت، مع الزمن، الى كنيسة مكرّسة على اسم القديس الشهيد فوقا من بداية القرن الرابع ( 303 ) ، ( راجع حياة المسيح في لبنان ، بطرس ضو، ص 265)
في العهد الصليبي كان التقليد لا يزال يشير الى وجود حجر مرصوف في حنية كنيسة دأب المؤمنون على تكريمه، اعتقاداً منهم ان السيد المسيح كان يجلس عليه عندما كان يعلم الناس في صيدا عند تردده اليها. (المرجع نفسه، ص 268 )
تناقل الحجاج على مدى الحقب التاريخية الذكريات ومشاهد المعالم المتعلقة بزيارة السيد المسيح الى صيدا. ففي القرن السابع عشر يذكر احد الحجاج الأوروبيين، لدى مروره فيها انه زار كنيسة المرأة الكنعانية في حي " الكنان" ، " تحريفاً ربما لاسم "كنعان"، في إشارة الى الكنعانية". وكانت الكنيسة تقع قرب ما اصبح لاحقاً كنيسة مار نقولا الصغيرة وكاتدرائية الروم الكاثوليك. (راجع مقام سيدة المنطرة، الأرشمندريت سابا داغر، ص 13 سنة 2003). هذه الكنيسة هي اليوم موضع اهتمام من السياحة اللبنانية والمهتمين بالتراث اللبناني لتتحول الى متحف للإيقونات.

اليوم يرتفع فوق تلة مغدوشة الواقعة على مقربة من مدخل صيدا الجنوبي مقام عظيم يحمل اسم " سيدة المنطرة"، إحياءً لذكرى زيارة السيد المسيح وامه السيدة مريم العذراء وعدد من تلاميذه الى صيدا وجوارها. وقد سمي المقام ب " سيدة المنطرة" ( من الجذر اللغوي الارامي "نطر" ويعني انتظر راقب وتأمل )، لأن السيدة العذراء والنساء المرافقات لها "إنتظرن" فوق التلة خارج المدينة عودة السيد المسيح ، وذلك جريا على عادة كانت تحرّم على النساء اليهوديات دخول المدن الوثنية ،كما تردد منذ القديم.
مقام " سيدة المنطرة" يعود تأسيسه الى القرن الرابع، الى مناسبة زيارة قامت بها القديسة هيلانة والدة الأمبراطور قسطنطين الأول، بعد رفع الإضطهاد عن المسيحيين وإقرار صيغة جديدة من الحرية الدينية في جميع أقاليم الأمبراطورية عام 313. في تلك الحقبة قامت القديسة هيلانة بعدة مشاريع عمرانية منها تشييد كنيستي القيامة والمهد في الأراضي المقدسة، و الإهتمام بترميم مقامات عديدة اخرى في المنطقة منها على سبيل الذكر لا الحصر كاتدرائية صور التي هدمت اثناء موجة الاضهاد الديوقلايسياني وكانت اعظم كنيسة في فينيقيا   وكنيسة "ايبلا" في البقاع وغيرهما .
بين تاريخ زيارة القديسة هيلانة الى المنطقة وتاريخ اكتشاف مغارة ايقونة " العذراء حاملة الطفل"عن طريق الصدفة على يد احد الرعيان مرحلة طويلة من الزمن   (من  313 حوالي الى 1721). يروى ان الايقونة كانت هدية من والدة الامبراطور الى أبناء المنطقة. وتزامن اكتشاف المغارة مع قيام حالة من الصحوة  داخل الكنائس الشرقية بصورة عامة نجمت عن العلاقات الجديدة بين امارة لبنان  في ظل الحكم العثماني وبعض الدول الغربية ، ولا سيما منها فرنسا وايطاليا ،وخصوصا الفاتيكان.علاقات ادت بفضل سياسة الامراءالمعنيين والشهابيين المنفتحة عل المسيحية والكثلكة بخاصة، الى تأسيس جمعية الاباء المخلصيين التي منها انطلقت  سلسلة من بطاركة الروم الكاثوليك المتحدين مع روما ( 1724). فبفضل هؤلاء الرعاة الجدد ورعايتهم الحكيمة تطور مقام "سيدة المنطرة " من مزار وضيع في مظهره والمساحة الصغيرة التي كان يشغلها الى مزار واسع تجاوز صيته الرقعة المحلية الى العالمية .فهو يشمل حاليا ، فضلا عن المغارة الاثرية، بازيليك تتسع لحوالي الف مقعد ، وبرجا يرتفع الى علو 28 مترا يحمل في اعلاة تمثالا للسيدة العذراء طوله 8 أمتار .ويماثل بجماله واشعاعه الديني  مقام سيدة لبنان في حريصا.(راجع : مقام سيدة المنطرة ، الارشمندريت سابا داغر طبعة 2003)

4 – من صيدا الى حرمون وسفوحه (المدن العشر او الديكابول) موقع التجلي وبداية درب الصليب :
حول وجهة مسارالطريق التي سلكها السيد المسيح بعد مغادرته صيدا اقترح الباحثون اكثر من احتمال واحد. يوحي النص الانجيلي الذي يؤكد  : " ثم خرج من تخوم صور ومر في صيدا وجاء فيما بين تخوم المدن العشر الى بحر الجليل" ( مرقس 7\13) بأن السيد المسيح عرّج  من صيدا الى الجهة اليمنى الشرقية نحو بلاد الجولان ، قاطعا مناطق المدن العشر،ليعود منها الى طبريا، حيث كان مركز رسالته ونشاطه التبشيري.ولكن يرى المؤرخ الاب بطرس ضو  ان " المسيح اجتاز الجبل اللبناني من صيدا حتى مشغرة في سهل البقاع مرورا بجزين.واجتاز لبنان الشرقي من سهل البقاع حتى ميسلون ودمشق" .(لبنان في حياة المسيح ص 275-276) .، فيما يستبعد الباحث واستاذ تاريخ الكتاب المقدس الاب ميشال دوران  يكون المسيح قد وصل الى المسيح الى دمشق، كما يتبين من الرسم المثبت في هذا البحث.
ولكن  أيا كانت الاراء حول  مسارات رحلة المسيح من صيدا الى حرمون والعودة منها الى طبريا يبقى هناك ثلاث محطات رئيسة لا يمكن تجاهلها:  قيصرية فيليبس ، بانياس – حرمون – قسم من البقاع، ابيلينه او "ايبلا".
-          في قيصرية فيليبس وقراها، اعلان تأسيس الكنيسة على صخرة بطرس
يذكر النص الإنجيلي ان السيد المسيح " لما جاء الى نواحي قيصرية فيليبس  سأل تلاميذه :"من تقول الناس ان ابن البشر هو " (متى 16/17). وفي مكان آخر : " ثم خرج يسوع وتلاميذه الى قرى قيصرية فيليبس ..." (مرقس 8/27)،  لذلك يجمع الباحثون على ان قيصرية فيليبس ما هي الا مدينة بانياس الجنوبية التي تقع اليوم في الأراضي السورية وعلى مسافة 18 كم شرقا من مرجعيون اللبنانية. كانت بانياس تشكل حتى الماضي القريب جزءا من أبرشية صور- لبنان. وقد سميت هكذا تمييزاً لها عن قيصرية الساحل. كان يحكمها في زمن المسيح فيليبس اصغر ابناء هيرودس وله فيها قصر جميل أبيض. صنّفها الرومان في عداد "المدن الملجأ" التي كان يمنح فيها الملاحقون امام وجه العدالة والمضطهدون حق الحماية. لذلك لم يكن مستغرباً ان يقصدها السيد المسيح مع عدد من تلاميذه المختارين بهدف الإختلاء في طبيعتها البعيدة عن أنظار الأعداء، وحيث يقيم اصدقاء له منهم "المرأة النازفة" التي كان قد شفاها من مرضها في كفرناحوم (متى 9/20 – مرقس 5/25 – ولوقا 8/40)، كما اثبت ذلك المؤرخ الكنسي اوسابيوس القيصري من القرن الرابع (تاريخ الكنيسة، ك7 ف 17 )، ذاكراً ان تلك المرأة ، تعبيراً منها عن شكرها للسيد المسيح، اقامت له في بستانها تمثالاً ظل قائماً حتى القرن الرابع قبل ان يهدمه الأمبراطور جوليانوس الجاحد.(راجع بطرس ضو المرجع نفسه ص 377)
في بانياس القريبة من منطقة الينابيع التي تستقي مياهها من جبل حرمون وتغذي نهر الأردن، يوجد مغارة تعرف منذ القديم بإسم " بانيون" او بان ، اله المراعي والقطعان في المعتقدات الوثنية. كانت تلك المغارة تشكل - حسب التقليد العبري-  إحدى " عيون الغمر " التي خرجت منها مياه الطوفان. (سفر التكوين 7/11)
المكان مؤات جداً للإختلاء والصلاة على إنفراد والتأمل  (لوقا 9/18) والحوار مع التلاميذ في أعمق المواضيع وأهمها:التكوين ، البشارة ،الفداء ، تأسيس الكنيسة وعالميتها ومستقبلها.  وقد تكون أجواء المكان الطبيعية والظروف التي تحيط بالحادثة ملائِما لترنيم صلاة داوود : "لماذا تكتئبين يا نفسي وتقلقين فيّ ... الهي اذكرك من ارض الأردن وجبال حرمون، من جبل مصعر، غمر ينادي غمراً على صوت شلالاتك، جميع تياراتك وامواجك قد جازت علي..." (مزمور 41 )، وأيضاً : " انت خلقت الشمال والجنوب، لإسمك يرنم طابور وحرمون" (مزمور 88/13).
 في هذا الجو الطبيعي والنفسي سأل السيد المسيح تلاميذه : " من يقول الناس ان ابن البشر هو؟" .أجاب بطرس : "انت ابن الله الحي". أجابه يسوع بعبارته التأسيسية: "أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها... وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات..." (متى 16/18 – 19).عمد يسوع في كلامه الى اللعب على لفظة "صخرة" التي ترجمتها باللاتينية  بطرس Petrus  وبالارامية "كيفا " الاسم البلدي والحقيقي لعميد الرسل.
جبل حرمون يعني الجبل المقدس ( من حرم) . لكن صفة القداسة او الحرمة هذه  لا تنسحب على جبل حرمون وحده بل تشمل "جبل لبنان" كله بما فيه السلسلتان الغربية والشرقية. هذا ما تؤكده نصوص الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد، وما أعاده الى أذهان اللبنانيين والعالم  منذ سنوات قليلة   قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عندما زار لبنان (10 ايار 1997) بقوله : " لبنان هو ارض مقدسة وارض قداسة وقديسين". هذا الوصف لا ينحصر في التراث المسيحي وحده بل يمتد الى التراث الإسلامي أيضاً ، حيث نجد في حديث شريف عن ابراهيم ابي المؤمنين أنه " صعد الى جبل لبنان. فقيل له: انظر فما ادرك بصرك فهو مقدس " .(راجع : المسيح عاش ايضا في لبنان، مي والفرد المر، 2005 ص 238)

موقع التجلي وبداية درب الصليب
بصرف النظر عن مسألة أي طريق سلك السيد المسيح في رحلته من صيدا الى حرمون، يشير النص الإنجيلي الى ان المسيح وتلاميذه المرافقين له امضوا ستة ايام في الطريق قبل الوصول الى جبل التجلي ( حسب متى ومرقس) او ثمانية ايام (حسب لوقا) ، بعد توقفهم في قيصرية فيليبس. اختلف الباحثون  في أي هو جبل التجلي .فمنهم من جعلوه في "طابور" الذي لا يتجاوز ارتفاعه  ال 655 متر في الجليل الادنى ، ومنهم من رجّح جبل الارز في شمال لبنان على غيره ( الاب بطرس ضو ) ، فيما يميل باحثون معاصرون آخرون    ( مارتينيانو رونكاليا والقس غسان خلف في كتابه  "لبنان في الكتاب المقدس"،1985)  الى ترجيح جبل حرمون ليكون هو جبل التجلي لا غيره . ومنهم من يرى ان التجلي لا ينحصر في تجل واحد بل هناك تجليات. من الشواهد التي ترجح ان التجلي الرئيسي قد حصل في حرمون لا في موقعٍ آخر  ان المسيح قد اتخذ من قيصرية فيليبس نقطة انطلاقه نحو جبل حرمون جيث جرى التجلي  ، وأن الأوصاف والقرائن (الجبل العالي والمقدس في متى 17 و2 بطرس 1\16-18) الواردة في الإنجيل عن هذا الجبل تنطبق على حرمون أكثر مما تنطبق على سواه:"وبعد ستة أيام اخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه فأصعدهم الىجبل عالٍ على إنفراد وتجلى قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالثلج" (متى 7/1 – 26).
كان التجلي مقدمة للدخول في مرحلة جديدة وأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض، مرحلة الآلام التي سيتحملها لدى عودته الى الجليل الأدنى وأورشليم. "وفيما هم نازلون من الجبل اوصاهم يسوع قائلاً لا تعلموا احداً بالرؤيا حتى يقوم ابن البشر من الأموات" (متى 7/9). بهذا تنبأ أنه سيتألم على أيدي الكتبة والفريسيين بتواطؤ السلطات الرومانية الحاكمة معهم ، كما تألم قبله أيليا وقتل يوحنا المعمدان بأمر من هيرودس " الذي كان قد أرسل الى يوحنا  من أمسكه وأوثقه في السجن من أجل هيروديا امرأة أخيه فيليبس حاكم المكان . فكان يوحنا يقول لهيرودس: "لا يحل لك  أن تأخذ امرأة أخيك"، وكانت هيروديا ناقمة عليه تريد قتله" . في تلك الاجواء  كان يسوع  يعرف أن  " هكذا ابن البشر مزمع ان يتألم منهم" (متى 17/12)

بقي جبل حرمون حتى القرن الرابع موقعاً حافلاً بهياكل وثنية متجاورة مع الأديار المسيحية، تقصدها جماهير الحجاج لإقامة الإحتفالات والمواسم الدينية على أنواعها وخاصة في ايام الصيف (6 آب) (راجع بطرس ضو ، ص 410). في القرن الرابع كتب احد أباء الكنيسة، القديس جيروم،رسالة  الى "عذارى جبل حرمون"   (Aux vierges de la montagne D'Hermon)  يعرب فيها  لهن عن عاطفته مشيرا الى حالته النسكية في البرية ، مذكراً ببعض تعاليم المسيح في محبة الضعفاء والخطأة ،ومشيدا بفضائل خادمات الله ، ومما  جاء فيها بالترجمة الفرنسية :
"La brièveté de ma lettre est preuve  de ma solitude…Au reste je vous prie de pardonner a ma douleur. Je vous le dis , les larmes aux yeux, j'en suis véritablement  touché .Apres vous avoir écrit tant de fois, vous n'avez pas seulement daigné me répondre un seul mot. Je sais que  les ténèbres ne peuvent s'allier avec la lumières « , et qu'un pécheur comme moi est indigne d'avoir part a l'amitié des servantes de Dieu, mais je sais aussi qu'une femme de mauvaise vie lava de ses larmes les pieds du Seigneur, que les chiens mangent les miettes qui tombent de la table de leurs maitres…. ».Celui a qui on remet davantage aime aussi davantage     « .Les anges oubliant  tout le troupeau ne se réjouissent dans le ciel que du salut d'un brebis malade. Si quelqu'un veut condamner cette conduite , le Seigneur lui dira ; » Mon ami , si je suis bon, pourquoi votre œil est-il malade ? »
(cf : Correspondance de Saint Jérôme sur :
تجدر الإشارة الى ان تلك المنطقة المنفردة الواقعة جنوب وشرق حرمون بما فيها أجزاء من لبنان وسوريا و الأردن، شكلت في القرون المسيحية الأولى وبخاصة إبان الحرب اليهودية الرومانية، "مراكز لجوء" إتقاء من أخطار الحرب والمطاردة. في هذا الصدد يذكر العالم الفرنسي ارنست رينان في مقدمة كتابه "حياة يسوع" والذي تمّ تأليف قسم كبير منه في لبنان بين غزير وجبيل وعين إبل ان بعض اقرباء يسوع كانوا لا يزالون يقيمون في المناطق الواقعة شمالي شرقي فلسطين حيث حافظ التراث الجليلي على خطه أكثر من اي مذهب آخر، وان الانجيل برواية متى، قد تمت كتابته  في المناطق المشار اليها.
(Ernest Renan , Vie de Jésus, introduction ,note 27 sur:http://www.lexilogos.com/docuement/renan/vie_jesus_o.htm )

يذكر الأب بطرس ضو في هذا الصدد نقلاً عن جوليانوس الأفريقي من كتّاب ودبلوماسيي القرن الثاني الميلادي ان جماعة لها صلة قربى بعائلة المسيح كانت تعيش هناك. ويعتقد الأب ضو ان إقامة هؤلاء الأقارب كانت في بلدة كوكبا اللبنانية الواقعة في قضاء حاصبيا (لبنان في حياة المسيح، 1980 ، ص 331.وتاريخ سوريا للمطران يوسف الدبس ،ج4 ص 38-40( و(Dict.de la Bible ,Supplement ,t.vi,Paris1960,col 332)

5- على طريق الآباء الأولين ، موطن أقرباء يسوع واحباء الله :
اذا كان الأب بطرس ضو يرى ان التجلي أو أقله التجلي الرئيسي للرب قد جرى في جبل الأرز وذلك لإعتبارات عدة يفندها منها ان صفة الجبل المقدس التي ترد في شهادة القديس بطرس (2 بطرس 1/16-18) تنطبق  على جبل لبنان وحده ، فإنه يرى من جهة اخرى ان اللقب الابرز الذي يطلق على حرمون انما هو " بعل حرمون" (قضاة 3/3) ولكن بواسطة التجلي تحقق في المسيح ، في كل حال، وصف سفر الأناشيد عن كل لبنان  : " طلعته كلبنان وهو مختار كالأرز" (نشيد الأناشيد 5/15)، كما يصف الشاعر البيبلي " عروسه طالعة من لبنان  بانفها الشامخ "كبرج لبنان الناظر الى دمشق" ( نشيد الاناشيد 7\4). في هذه الصورة يقول غسان خلف:" لبنان في هذه القرينة ما هو الا حرمون الذي منه يمكن للناظر رؤية مدينة دمشق " .(لبنان في الكتاب المقدس ، ص 271)
-          والسؤال الأخير حول المحطات التالية من رحلة المسيح الى لبنان : هل قصد البقاع وأجزاء اخرى من جنوب لبنان ؟
يستنتج من الآية التي جاء فيها : "ثم خرج من تخوم صور ومرّ في صيدا وجاء فيما بين تخوم المدن العشر الى بحر الجليل" (مرقس 7/31)، ان السيد المسيح صعد من صيدا بإتجاه الشرق مباشرة او الى الشمالي الشرقي التفافا حول حرمون باتجاه دمشق ، ليصل في كل من المسارين الى بحيرة طبريا عبر المدن العشر ومن بينها قيصرية فيليبس وأبيلا (وادي سوق بردى) ودمشق وسواها من المدن التي يتعدى عددها العشر ليصل الى ثماني عشرة او عشرين حسب بعض الباحثين.
يمكن الاجابة على السؤال المطروح بعد معرفة  الهدف الحقيقي الذي كان حافزاً لتوجيه مسارات الرحلة. يرى عدد من الباحثين ومن بينهم الأب بطرس ضو ان "سهل البقاع ولبنان الشرقي حافلان بالتذكارات والمزارات المتعلقة بالأباء الأولين، آدم وهابيل وقايين و شيت ونوح وأولاد نوح. فهذه البقعة من الأرض التي يعتبر التقليد انها كانت جزءا من الفردوس (... ) كانت مسرحاً للوقائع التي تميزت بها حياة هؤلاء الأباء الأولين. والتقاليد المتعلقة بهذه الوقائع ومزاراتها ترقى الى اقدم العصور . وقد تناولتها الشعوب في هذا الشرق جيلاً بعد جيل. وردت في تواريخ وكتب المؤلفين العرب الذين اخذوها عن المسيحيين. وهؤلاء اخذوها عن الشعوب التي سبقتهم من عبرانيين وفينيقيين وغيرهم، ومن نصوص الكتاب المقدس والنصوص الفينيقية والتلمودية والأشورية والبابلية والمصرية وغيرها". (راجع الأب بطرس ضو ص 288 و 289 ). لذلك، وبعد الاخذ بالاعتبار لهذه الافتراضات ،لا يبدو مستبعداً ان يكون السيد المسيح قد قصد هذه المزارات العديدة ليكرم فيها أباء العهد القديم والأولياء المشهورين في كتب العهد القديم تاكيدا منه على تواصل رسالة الانبياء. " لا تظنوا اني جئت لأحل الناموس والأنبياء. ما جئت لأحل بل لأكمل" (متى 5/17)
 فكانت هذه المقامات من الأهداف الأساسية لرحلته التي قام بها بوصفه حاجاً أكثر من وصفه لاجئاً او هارباً من وجه اعدائه الذين كانوا يطاردونه في الجليل واليهودية وبعد أن جاء اكثر من صديق ينصحه   : "أخرج من هنا فإن هيرودس يريد قتلك" ، كما قتل يوحنا المعمدان (لوقا 13/31).

في سهل البقاع وجنوب لبنان تنتشر بالفعل أسماء تعود الى عدد من الانبياء والاولياء منهم:

هابيل الذي تحول اسمه أحياناً الى "آبل" أو "أبيل" او "إبل". فأطلقت هذه التسمية على عدد غير قليل من المدن والقرى أو دخلت في تركيبة اسمها: آبل القمح،إبل السقي ، عين إبل ، آبل بيت معكا، آبل السوق، وهي ابيلا التي كانت عاصمة ولاية "أبيلينا" والتي كان حاكما عليها في زمن يوحنا المعمدان ليسانياس احد ابناء هيرودس كما ورد في انجيل (لوقا 3/1) .علما أن هذه الولاية كانت تمتد الى شمال لبنان وجنوبه. فلفظة "آبل" وردت حوالي إثني عشرة مرة في الكتاب المقدس، وهي كلها تشير الى معنى من المعاني المتصلة بشخصية هابيل. لذلك وبناء على ما تقدم لا يبدو مستغرباً ان يقصد المسيح هذه المواقع، تكريماً منه لذكرى الشهيد الأول للبشرية القديمة، والرمز السابق للمسيح الشهيد الأول للبشرية الجديدة.

تخليداً لذكرى هابيل، الذي تقول عنه التقاليد المختلفة انه قتل فوق جبل قاسيون في القرب من دمشق ودفن في آبيلا (عاصمة ابيلينه المذكورة في لوقا 3/1) بنت القديسة هيلانة هناك في القرن الرابع كنيسة كان لا يزال باقيا منها في القرن السابع عشر "عمودان مرتفعان على منحدر ربوة تبعد عن دمشق ستة عشر ميلاً ... على هذين العمودين حنية تجعل ما بينهما على هيئة باب، وقريباً من هناك أخربة كثيرة يستدل منها على ان القديسة هيلانة قد بنت في ذاك الموضع كنيسة تذكاراً لهابيل البار الذي دفن هناك. اما طول مدفنه فمائة وستون شبراً" كما يذكر الأب غوجون في كتابه عن رحلته في الأرض المقدسة (J.Goujon, histoire et voyage en Terre Sainte, 1668, II, p.4) (راجع ايضا الأب ضو صفحة 293)
يقول الأب ضو : "إن ذكرى هابيل وذبيحته وإستشهاده كانت في زمن المسيح تملأ سهل البقاع ولبنان الشرقي ودمشق". ومن ذلك يفترض أن :" هذا الامر كان من دواعي زياة المسيح لهذه الأماكن في رحلته" الى مناطق في لبنان. (راجع ضو صفحة 296). كان الهدف من هذه الرحلة أذن - كما أشرنا- تأكيد السيد المسيح على تواصل الرسالات السماوية.
 في البقاع مواقع اخرى عديدة تحمل أسماء الأباء الأولين، نذكر منها موقعين بإسم "النبي شيت"، الأول في رياق والآخر قرب حاصبيا وموقع في جنوب لبنان  قرب تبنين ، "برعشيت"  وتعني "أرض شيت" . من هذه المواقع  التي تحفل بها معاجم أسماء المدن والقرى والبلدات اللبنانية  أيضاً "قبر نوح" قرب زحلة و "كرك نوح" و "هِبلا" ، "وتلفظ ايضا حبلا" ،ابنة نوح . ومن اسماء الأنبياء أيضا "حام" في لبنان الشرقي، و "حول" ثاني اولاد آرام بن نوح . لعل من هذا الاسم جاء اسم بحيرة "الحولا" ، التي كانت الى زمن قريب لبنانية، و "ميشا" الإبن الرابع لآرام . من هذا الأسم جاء اسم "ميس الجبل" حسب ما يورد الأب ضو في كتابه المشار اليه (ص 319 – 224). وغيرها العديد من اسماء المواقع.
-   حديث النبي داود في من هم احباء الله المقيمين عند العيون في جبل لبنان.
-   راجع نص ابي حامد الغزالي ( المتوفي عام 1111) في موضوع المحبة والشوق في كتابه "احياء علوم الدين" في الموقع:
-   نص من التراث الاسلامي يستند الى التراث العبري ينقل فيه الغزالي حوارا بين الله والنبي داود وفيه يطلب داود :
-   "يا رب أرني أهل محبتك".فيجيبه الله : " يا داود إئت جبل لبنان، فإن فيه اربعة عشر نفسا فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول  .
-   إذا أتيتهم فاقرئهم مني السلام وقل لهم:ان ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة.فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي ،أفرح لفرحكم وأسارع الى محبتكم".فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز وجل....قال: فجرت الدموع على خدودهم " ( ثم يضع الغزالي على لسان كل من هؤلاء الشيوخ (اللبنانيين) عبارة واحدة ليقول فيها ماهي حاجته أذكر منها: " لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق اليك واتمم بذلك المنة علينا"
-    وقال آخر :"...أمنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك".... فأوحى الله الى داود .. قل لهم قد سمعت كلامكم وأجبتكم الى ما أحببتم فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سربا فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا الى نوري وجلالي"...
-   فقال داود: يارب بم نالوا هذا منك ؟ قال: بحسن الظن والكف عن الدنيا واهلها والخلوات بي ومناجاتهم لي وإن هذا منزل لا يناله الا من رفض الدنيا وأهلها......واختارني على جميع خلقي ، فعند ذلك أعطف عليه ...وأريه كرامتي كل ساعة وأقربه من نور وجهي ، إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الحنون الشفيقة ولدها....اذا سمع بذكري أباهي به ملائكتي وأهل سمواتي ....يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدره من النظر الي حتى يرضى وفوق الرضا".
إن هذه المعاني والذكريات والصور القديمة كلها ، انما  تشكل جزءا ثميناً لا من تراث لبنان فحسب بل من تراث البشرية بكاملها.
وكم ينبغي المحافظة عليه  حيا في النفوس ، وعدم الكلل من إلقاء الضوء عليه اليوم اكثر من أي يوم آخر بعدما اصبح الوطن الصغير برقعته  لبنان  اكثر من موقع جغرافي ، بل رسالة ، كما بات القول به مأثوراً بعد البابا يوحنا بولس الثاني ، وبعد ان اصبح للبنان أيضا  اكثر من موقع عالمي على قائمة المواقع التراثية العالمية للاونيسكو: بعلبك،عنجر، وادي قاديشا ،جبيل ، صور ، وقريبا مغارة جعيتا عجيبة من عجائب الدنيا.
عسى ان يتنامى الوعي في الوجدان اللبناني باهمية هذا التراث، ومن ثم بذل كل جهد لكشفه وتخصيص ما يقتضيه من وسائل التخطيط والتنقيب وإرساء البنى السياحية، والثقافية ، وما يتطلبه دلك من مكتبات ومتاحف ومراكز ابحاث ووسائل إتصال ومواصلات، ، ورسم دروب ومسالك في الطبيعة، وتنظيم رحلات للتعرف الى جمالات البيئة اللبنانية وكنوزها الثقافية والروحية. إن مثل هذا المشروع، إذا ما أخذ على محمل من المسؤولية – كما اشار رئيس مجلس الوزراء - قد يكون له أبعاد ومردودات لا تقدر بثمن على كل الأصعدة الحضارية والدينية والإقتصادية .
إن المبادرات القليلة التي إتخذتها في هذا المجال مؤسسات رسمية وأهلية للتعرف على التراث  والبيئة والحفاظ عليها انما هي من نماذج العمل المشجع والواعد الذي من شأنه تعزيز السياحة الدينية والثقافية.هي لا تزال بحاجة الى المزيد من الوعي والإيمان المستنيرين بالحس الانساني والحضاري العميق الذي من المفترض أن تسقط معه كل المنافع والنظريات الفئوية، ليتجلّى وجه لبنان البهي والحقيقي ، كمساحة مصغرة عن عالم يمكن العيش فيه والإيمان بكل حرية ، في عصر العولمة التي تتطلب أن يكون في تطبيق مبدأ  "الوحدة في التنوع" الضمانة الحقيقية لعيش مبادىء المسيح وتحقيق الاخوة الشاملة في العائلة البشرية الواحدة.

1



https://www.akhawiyat.org/chabiba/download.php?f=JesusPath.doc


Envoyé de mon iPad jtk