Translate
lundi 15 janvier 2024
على خطى المسيح في جنوبي لبنان
<b>
"نحن هنا في المنطقة التي وطئتها منذ الفي سنة قدما السيد المسيح مخلص العالم...
فيا أيها اللبنانيون واللبنانيات إن ابن الله نفسه كان اول من بشّر اجدادكم... فلا
يمكننا أن ننسى أن صدى كلمات الخلاص التي نطق بها يوما في الجليل قد بلغت باكرا الى
هنا.. لبنان هو بلد بيبلي لبنان وارض مقدسة وأرض قداسة وقديسين " بمثل هذه الكلمات
توجه البابا القديس يوحنا بولس الثاني الى جمهور المئات من الالوف الذين كانوا ق
جاؤوا لاستقباله في وسط العاصمة بيروت في شهر ايار من العام 2007 وكانت تلك الكلمات
حافزا لتعزيز السياحة الدينية ، كجزء من تعزيز الحوار بين الاديان والعيش المشترك
في لبنان الذي باتت مقولة البابا القديس بشأنه " لبنان الرسالة " على كل شفة . من
هنا كانت انطلاقة مشروع " على خطى المسيح في جنوب لبنان " .وكان هذا البحث محاولة
لمقاربة موضوع له أهميته، في الظروف الراهنة، يتعلّق بينابيع الإيمان، فوق الأرض
اللبنانية . يتمحور البحث حول الاجابة على سؤالين أساسيين : ما هي أبرز المواقع
والمحطات في رحلات المسيح الى جنوب لبنان ، وما هي الظروف والأهداف التي أحاطت بها
؟ مقاربة نتتّبع فيها المسارات التي سلكها السيد المسيح ورسله ، إستناداً الى نصوص
كتابية بيبلية وكتابات مؤرخين وباحثين وتقاليد ومرويات محلية وفق المحاور الست
التالية : أولا = بين يارون و قانا ، طلّة اولى على ربوع لبنان ووجوه العهد القديم
1- يشير احد علماء الكتاب المقدس ( الفرد دوران في بداية القرن العشرين)،في الخريطة
المرفقة ( المشرق 11 ، 1908 ، ص 81-92) الى ان رحلة السيد المسيح في ارض لبنان بدأت
من عند نقطة تقع قرب بلدتي يارون ومارون الراس الحدوديتين . هناك كان نظام " المدن
الملجأ" معروفا منذ الالف الثاني قبل المسيح. ومن بين بلدات تلك المنطقة الحدودية
القريبة من بحيرة الحوله تقع بلدة الجش (جيسكالا) التي هي بحسب بعض المؤرخين
(القديس جيروم) مسقط رأس عائلة بولس الرسول(لبنان في حياة المسيح بطرس ضو ، 1980 ص
262) . من هناك - وعلى جانبي الحدود الدولية يطل السائح على مواقع غنية بالذكريات
البيبلية، وعلى مشاهد طبيعية جميلة . منها ينحدر الطريق الى واديين يؤدي كل منهما
،عبر سلسلة من المرتفعات والأودية، الى قانا وصور عبر مجموعة من القرى والبلدات
اللبنانية . ينحدر الوادي الأول غربا بإتجاه عين ابل ورميش ودبل والقوزح، ليصعد الى
ياطر وكفرا وصديقين فقانا. فيما ينعطف الوادي الثاني شمالاً من يارون الى عين ابل
وبنت جبيل وكونين وبيت ياحون وتبنين وحاريص ودير عامص ودير انطار ودير كيفا
وغيرها... يشير النص الانجيلي الى ان السيد المسيح كان عندما يتجول في أرض الوثنيين
لم يكن يسلك طرقا مألوفة بل يتجول متخفياً اكثر الاحيان عن الانظار (مرقس 7/24).
وكان اسمه وعجائبه تسبقه وتذيع صيته في كل مكان من المنطقة فتتقاطر اليه الجموع من
مناطق صور وصيدا طلباً للشفاء والاستماع الى أقواله (مرقس 3/8، لوقا 6/17؛ متى
15/21) .لذلك قد يكون هناك اكثر من رحلة واحدة قامبها السيد المسيح متجولاً
ومتوغلاً، سواء للإختلاء في الجليل الاعلى ولبنان ، ولا سيما بعد اسشهاد يوحنا
المعمدان على يد هيرودس ، أم للتأمل وطلب الهدوء في طبيعة لبنان ( منطقة حرمون ) مع
عدد من تلاميذه المختارين ، ام للتخّلص من مطاردة اعدائه له، بعدما سمع كلام من جاء
يقول له محذرا : " أخرج واذهب من هنا فإن هيرودس يريد قتلك " ( يوحنا : 13 : 31 ) .
بعد بضعة كيلومترات من الجش باتجاه قانا وصور في جوار تبنين ، حيث تقع قلعة صليبية
تضم بين أسوارها كنيسة على اسم السيدة العذراء مريم، ينقل التقليد ( راجع بطرس ضو ص
263 ) : ان السيد المسيح وقف عند تلة مطلة ( لعلها مفرق دير انطار في السلطانية ،
بعد ان كان اسمها "اليهودية" في اواسط القرن الماضي ) على منظر جميل يشمل جبل حرمون
شرقاً وساحل مدينتي صور وصيدا غرباً وشمالا ، متأملاً في أمجاد ماضيها ومصيرها كما
جاء على لسان حزقيال وأشعيا اللذين تنبأا لمدينة صور بالخراب بسبب خطاياها .(حزقيال
27، 26، و 28) . تشير المرويات والتقاليد ( راجع الاب ضو ) الى وقفة وقفها المسيح
هناك متأملا في ماضي صور وفي جذور المسيح البشرية فيها، جذور ترقى الى جدّه العشرين
"يورام" (راجع متى 1\8) زوج عتليا الحفيدة المشتركة لكل من الملك العبري أخاب (
874-853) والملك الصوري ايتوبعل الاول من خلال ابنته ايزابيل زوجة الملك أخاب
(1ملوك 16/31). هذه الملكة الجدة كانت قد انتهجت في ايامها سياسة مشحونة بالعصبية
القومية والدينية عندما حاولت أن تفرض على الشعب اليهودي طقوسا وعبادات فينيقية
وثنية ، مما ادى الى نشوب ثورة ضدها (3ملوك 17\1) فقتلها متطرفون صونا لديانة الاله
الواحد في وجه آلهة البعل . ثانيا = قانا الجليل : تشكل محطة رئيسة على طريق يسوع
داخل جليل الامم ، كما تشكل محطة اولى في إعلان رسالته العالمية ومجده أمام الناس ،
من خلال معجزة تحويل الماء الى خمر أثناء عرس كانت حاضره فيه أمه مريم . وقانا ،
وفقا لشهادة كل من مؤرخ الكنيسة الاول اوسابيوس القيصري (265-340) والقديس جيروم من
القرن الخامس وفرنشيسكو سوريانو حارس الاراضي المقدسة في القرن الخامس عشر ،
والبطريرك الطيب الذكر مكسيموس الخامس حكيم ، والمنسنيور بولس فغالي والعالم
رونكاليا وغيرهم من الباحثين والمؤرخين اللبنانيين وغير اللبنانينن ، هي على الارجح
"قانا واحدة وهي الان في لبنان" . (راجع : مرتينيانو .ب. رونكاليا ، "على خطى يسوع
المسيح في فينيقيا- لبنان" 2007، ص 134) . قانا الجليل اللبنانية هي اليوم على
الرغم من انها موضع جدل بين المؤرخين . جديرة بوقفة طويلة ومعمقة عند معالمها
وتاريخها ، لا من ناحية السياحة الدينية وحسب ، بل من ناحية ماضيها الديني والثقافي
بصورة عامة ايضا . فمعالمها ( أجران ورسوم ) ناطقة بأحداث تنطق بها صخور وديانها.
وتذكّر أجرانها ومغاراتها ب "قانا العرس" ، وبقانا "مدينة الملجأ" ، حيث كان
المسيحيون الأولون يتوارون عن الأنظار هرباً من ألإضطهاد، غداة استشهاد اسطفانس
طليعة الشهداء المسيحيين . جاء في كتاب أعمال الرسل " أما الذين تشتتوا من جراء
الضيق الذي حصل بسبب اسطفانوس فاجتازوا الى فينيقية".(11: 19 ) في كتابه الموثق
يثبت الباحث الايطالي رونكاليا هذه الوقائع مبينا ان يسوع زار قانا مرتين : الأولى
في اذار عام 28 حين اجترح معجزته الأولى، والثانية في آب من السنة نفسها حين شفى عن
بعد ابن احد الضباط الرومان وآمن به الرسول نتنائيل . يسلط كتاب رونكاليا الضوء على
احداث لا تعرف عنها الثقافة اللبنانية الحالية إلا النذر القليل. ثانيا : -بين صور
والصرفند ، ايمان الكنعانية العظيم تؤكد النصوص الكتابية بصورة لا تقبل الشك ان
السيد المسيح جال في نواحي صور ومر في مدينة صيدا : " ثم مضى من هناك وذهب الى
نواحي صور وصيدا فدخل بيتاً" (مرقس 7/24) . وايضا : " ثم خرج من تخوم صور ومرّ في
صيدا " (مرقس). الى ذلك هناك اكثر من تقليد متوارث اثبتته كتابات المؤرخين الاولين
مثل اوسابيوس القيصري والقديس جيروم وغيرهما، مفاده ان السيد المسيح استراح عند"
رأس العين " جنوبي مدينة صور وتناول طعاماً عند ذلك الينبوع وشرب منه. وعن ااحدى
بوابات صور كان المسيحيون الاولون ، الى العهد الصليبي، يكرمون صخرة كان يقف السيد
المسيح فوقها ليعلّم الناس. (لبنان في حياة المسيح، بطرس ضو، 1980، ص 6-265 ) - عند
مشارف صور او قريبا من الصرفند ، شفى السيد المسيح ابنة المرأة الكنعانية او
السيروفينيقية ( متى15/21 –28 ومرقس 7\24-30) . بعد ان سمعت بان السيد المسيح دخل
هناك بيتاً، فجاءت مسرعة تستغيث به طالبة الشفاء لأبنتها. أمام اصرارها تعجّب يسوع
من ايمانها ، على الرغم من اللهجة القاسية التي خاطبها بها اولا ثم ما لبث ان بدّ
من قساوة لهجته امام قوة ذكائها وايمانها العظيم :" ما اعظم ايمانك ايتها المرأة،
فليكن لك ما تريدين " (مرقس 7/21 – 28؛ متى : 15: 21-28 ). جاء في كتابات القرن
الثالث ان تلك المرأة كان اسمها يوستا، اي عادلة أو عدلاء،عدلون . واسم ابنتها
بيرينيق (راجع الميامر المنسوبة الى القديس كليميس، ضو ، ص 264 ). - في طريقه من
صور الى صيدا، مرّ السيد المسيح فيالصرفند، (وهي " صارفة صيدا" وتعني مصهر الزجاج)
. ورد اسمها في مواعظ المعلم الالهي في معرض ذكره للعلاقة بين النبي ايليا وأهل
الصرفند، معربا عن تقديره لإيمان اهل صيدا وصور ومشيدا بايمانهم كما فعل مع
الكنعانية . قال : " ان صور وصيدا تكون لهما حالة اكثر إحتمالا يوم الدين" ، مقارنة
بحال بعض المدن اليهودية التي كانت قد عاينت الآيات وسمعتها ولكهنا لم تؤمن كما آمن
اهل صور وصيدا (لوقا 10/13 – 14) في عظة اخرى القاها السيد المسيح في الناصرة، ذكر
أيضا " صارفة صيدا "، مشيداً بإيمان اهلها : "ارامل كثيرات كنّا في اسرائيل في ايام
ايليا حين حدث جوع عظيم... ولم يبعث ايليا الى واحدة منهن الا الى صارفة صيدا، الى
امرأة ارملة (لوقا 4/5 -26) انقذها ايليا وعائلتها من الجوع (3 ملوك 17/8 24) .
يومها تفوّهت الأم اللبنانية بكلام عبّر عن ايمان عظيم بآيات النبي إيليا، مماثلا
الى حد بعيد الكلام الذي نطقت به بعدها بحوالي ثمانية قرون ابنة وطنها يوستا
(عادلة) الكنعانية السيروفينيقية، معلنة هي ايضا عن "ايمانها العظيم" : " الآن علمت
انك رجل الله حقاً وان كلام الرب في فيك حقا " (3 ملوك 17\24) التقاليد المسيحية
(والاسلامية من بعدها عبر العصور) ذكرت ايليا النبي، فشيدت في الصرفند كنيسة تخلد
ذكرى اقامته فيها واحسانه الى اهلها. لا يزال يوجد حتى اليوم مقام على اسم "الخضر"،
وهو عبارة عن مزار يقصده الحجاج من مختلف المذاهب. يشير اليه المؤرخون والحجاج منذ
القرن الرابع على انه المكان الذي كان فيه بيت الأرملة التي زارها النبي ايليا وشفى
ابنها. (لبنان في حياة المسيح، بطرس ضو، 1980، ص 268 ) ثالثا : في صيدا ومغدوشة
سيدة المنطرة وجوارها ، بين الانتطار والعبور الى التجلي " ثم خرج من تخوم صور ومر
في صيدا " ، ( مرقس 7/31 ومتى 15/21 – 29 ). الى هذه الحقيقة يثبت النص المقدس
إقامة بولس الرسول في كل من صور وصيدا بضعة أيام : " مكثنا هناك سبعة ايام " (
أعمال الرسل 21/4 ) و "أقبلنا الى صيدا فعامل يوليوس (الضابط الروماني) بولس بالرفق
وأذن له ان يذهب الى اصدقائه (الصيداويين) ليحصل على عناية منهم " ( أعمال الرسل
27/3 ) هناك تقليد قديم اشارت اليه القديسة ميلاني من اواسط القرن الرابع ( 343-410
) بانها رأت في صيدا بيت المرأة الكنعانية التي شفى السيد المسيح ابنتها. وقد تحول
هذا البيت، مع الزمن،الى كنيسة مكرّسة على اسم القديس الشهيد فوقا من بداية القرن
الرابع ( 303 ) ، (راجع حياة المسيح في لبنان ، بطرس ضو، ص 265 ) في العهد الصليبي
كان التقليد لا يزال يشير الى وجود حجر مرصوف في حنية كنيسة دأب المؤمنون على
تكريمه، اعتقاداً منهم ان السيد المسيح كان يجلس عليه عندما كان يأتي الى صيدا
ويعلم اهلها. (المرجع نفسه، ص 268 ) تناقل الحجاج على مدى الحقب التاريخية الذكريات
ومشاهد المعالم المتعلقة بزيارة السيد المسيح الى صيدا . ففي القرن السابع عشر يذكر
احد الحجاج الأوروبيين، لدى مروره فيها انه زار كنيسة المرأة الكنعانية في حي "
الكنان" ، " تحريفاً ربما لاسم "كنعان"، في إشارة الى الكنعانية. كانت تلك الكنيسة
تقع قرب ما اصبح يعرف لاحقاً بكنيسة مارنقولا الصغيرة وكاتدرائية الروم الكاثوليك.
(راجع مقام سيدة المنطرة، الأرشمندريت سابا داغر، ص 13 سنة 2003). هذه الكنيسة هي
اليوم موضع اهتمام من السياحة اللبنانية والمهتمين بالتراث اللبناني لتتحول الى
متحف للإيقونات. رابعا= سيدة المنطرة – مغدوشة : اليوم يرتفع فوق تلة مغدوشة
الواقعة على مقربة من مدخل صيدا الجنوبي مقام عظيم يحمل اسم " سيدة المنطرة"،
إحياءً لذكرى زيارة السيد المسيح وامه السيدة مريم العذراء وعدد من تلاميذه الى
صيدا وجوارها. وقد سُمي المقام ب " سيدة المنطرة"(في الارامية فعل"نطر" يعني انتظر
راقب وتأمل)، لأن السيدة العذراء والنساء المرافقات لها "إنتظرن" فوق التلة خارج
المدينة عودة السيد المسيح ، وذلك جريا على عادة كان يُحرّم بموجبها على النساء
اليهوديات دخول المدن الوثنية ،كما تردد منذ القديم. مقام " سيدة المنطرة" يعود
تأسيسه الى القرن الرابع، الى مناسبة زيارة قامت بها القديسة هيلانة والدة
الأمبراطور قسطنطين الأول، بعد رفع الإضطهاد عن المسيحيين وإقرار صيغة جديدة من
الحرية الدينية في جميع أقاليم الأمبراطورية عام 313 في " اعلان ميلانو ". في ذلك
الزمن قامت القديسة هيلانة بعدة مشاريع عمرانية منها تشييد كنيستي القيامة والمهد
في الأراضي المقدسة، و الإهتمام بترميم مقامات عديدة اخرى في المنطقة منها على سبيل
الذكر لا الحصر ترميم واعادة تدشين كاتدرائية صور (بين 316-320) بعد تدميرها اثناء
موجة الاضهاد الديوقلييسياني ، وكانت اعظم كنيسة في فينيقيا وربما في العالم ،
وكنيسة "ابيلا" الواقعة في منطقة السلسلة الشرقية من جبال لبنان ، شمالي غربي دمشق،
والمشيدة تكريما لذكرى هابيل ، وغيرهما من الكنائس .بين تاريخ زيارة القديسة هيلانة
الى المنطقة وتاريخ اكتشاف مغارة ايقونة " العذراء حاملة الطفل" في مغدوشة عن طريق
الصدفة على يد احد الرعيان، مرحلة طويلة من الزمن (من 313 حوالي الى 1721). من مزار
وضيع في مظهره ومساحته الى مزار واسع تجاوز صيته الرقعة المحلية الى العالمية .ووضع
خلال العام 2016 على لائحة المقامات الدينية العالمية . يشمل ، فضلا عن المغارة
الاثرية، بازيليك تتسع لحوالي الف مقعد ، وبرجا يرتفع الى علو 28 مترا يحمل في
اعلاه تمثالا للسيدة العذراء طوله 8 أمتار . ويماثل بجماله واشعاعه الديني مقام
سيدة لبنان في حريصا. (راجع : مقام سيدة المنطرة ، الارشمندريت سابا داغر طبعة 2003
) خامسا = من صيدا الى حرمون وسفوحه (المدن العشر او الديكابول) موقع التجلي وبداية
درب الصليب حول وجهة مسار الطريق التي سلكها السيد المسيح بعد مغادرته صيدا اقترح
الباحثون اكثر من احتمال واحد . يوحي النص الانجيلي : " ثم خرج من تخوم صور ومر في
صيدا وجاء فيما بين تخوم المدن العشر الى بحر الجليل" ( مرقس7\13) بأن السيد المسيح
عرّج من صيدا الى الجهة اليمنى الشرقية نحو بلاد الجولان ، قاطعا مناطق المدن
العشر،ليعود منها الى طبريا، حيث كان مركز رسالته ونشاطه التبشيري. يرى الاب بطرس
ضو ان " المسيح اجتاز الجبل اللبناني من صيدا حتى مشغرة في سهل البقاع مرورا بجزين
. واجتاز لبنان الشرقي من سهل البقاع حتى ميسلون ودمشق" .(لبنان في حياة المسيح ص
275-276) . أيا كانت الاراء حول مسارات رحلة المسيح من صيدا الى حرمون والعودة منها
الى طبريا يبقى هناك ثلاث محطاترئيسة لا يمكن تجاهلها: قيصرية فيليبس ، بانياس –
حرمون – قسم من البقاع، ابيلينه او "ابيلا". في قيصرية فيليبس وقراها، اعلان تأسيس
الكنيسة على صخرة بطرس : يذكر النص الإنجيلي ان السيد المسيح " لما جاء الى نواحي
قيصرية فيليبس سأل تلاميذه:"من تقول الناس ان ابن البشر هو “(متى 16/17). وفي مكان
آخر : " ثم خرج يسوع وتلاميذه الى قرى قيصرية فيليبس ..." (مرقس 8/27)، لذلك يجمع
الباحثون على ان قيصرية فيليبس هي مدينة بانياس التي تقع اليوم في الأراضي السورية
المحتلة وعلى مسافة 18 كم شرقا من مرجعيون اللبنانية. وقد سميت هكذا تمييزاًلها عن
قيصرية الساحل. في زمن المسيح كان يحكمها فيليبس اصغر ابناء هيرودس وله فيها قصر
جميل أبيض. صنّفها الرومان في عداد "المدن الملجأ" . رسالة لبنانية مستمرة عبر ما
يستقبله لبنان اليوم من مختلف فئات اللاجئين والنازحين . لذلك لم يكن مستغرباً ان
يقصدها السيد المسيح مع عدد من تلاميذه المختارين بهدف الإختلاء في طبيعتها البعيدة
عن أنظار الأعداء، وحيث يقيم اصدقاء له منهم"المرأة النازفة" التي كان قد شفاها من
مرضها في كفرناحوم (متى 9/20 – مرقس 5/25 – ولوقا 8/40), اثبت المؤرخ الكنسي
اوسابيوس القيصري من القرن الرابع (تاريخ الكنيسة، ك7 ف 17 )، ان تلك المرأة ،
تعبيراً منها عن شكرها للسيد المسيح، اقامت له في بستانها تمثالاً ظل قائماً حتى
القرن الرابع قبل ان يهدمه الأمبراطور جوليانوس الجاحد . المكان مؤات جداً للإختلاء
والصلاة على إنفراد والتأمل (لوقا 9/18) والحوار مع التلاميذ في أعمق المواضيع
وأهمها:التكوين ، البشارة ،الفداء ، تأسيس الكنيسة وعالميتها ومستقبلها. وقد تكون
أجواء المكان الطبيعية والظروف التي تحيط بالحادثة ملائِمة لترنيم صلاة داوود :
"لماذا تكتئبين يا نفسي وتقلقين فيّ ... الهي اذكرك من ارض الأردن وجبال حرمون، من
جبل مصعر، غمر ينادي غمراً على صوت شلالاتك، جميع تياراتك وامواجك قد جازت علي..."
(مزمور 41 )، وأيضاً : " انت خلقت الشمال والجنوب، لإسمك يرنم طابور وحرمون".في ذلك
الجو الطبيعي والنفسي الواقع قرب الحدود اللبنانية الحالية سأل السيد المسيح
تلاميذه : " من يقول الناس ان ابن البشر هو؟" .أجاب بطرس : "انت ابنالله الحي".
أجابه يسوع بعبارته التأسيسية: "أنت الصخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي وأبواب
الجحيم لن تقوى عليها... وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات..." (متى16/18 – 19).تعمد
يسوع في كلامه من خلال استعماله للفظة "صخرة" -التي ترجمتها باللاتينية بطرس Petrus
وبالارامية "كيفا " الاسم البلدي والحقيقي لعميد الرسل الى تأكيد رسالة القديس بطرس
بوصفه رأسا ورئيسا للكنيسة . جبل حرمون يعني الجبل المقدس ( من حرم) . صفة القداسة
او الحرمة هذه تنسحب ايضا على غيره من الجبال ، منها "جبل لبنان" كله بما فيه
السلسلتان الغربية والشرقية. صفة تؤكدها نصوص الكتاب المقدس في عهديه القديم
والجديد، وما أعاده الى أذهان اللبنانيين والعالم منذ سنوات قليلة كلام قداسة
البابا يوحنا بولس الثاني عندما زار لبنان(10 ايار 1997) عندما قال : " لبنان هو
ارض مقدسة وارض قداسة وقديسين". هذا الوصف لا ينحصر في التراث المسيحي وحده بل يمتد
الى التراث الإسلامي أيضاً حيث نجد في حديث شريف عن ابراهيم ابي المؤمنين أنه " صعد
الى جبل لبنان. فقيل له: انظر فما ادرك بصرك فهو مقدس " .(راجع : المسيح عاش ايضا
في لبنان، مي والفرد المر، 2005 ص 238 ) موقع التجلي وبداية درب الصليب : من
الشواهد التيترجح ان التجلي قد حصل في حرمون لا في موقعٍ آخر : - اتخاذ المسيح من
قيصرية فيليبس نقطة انطلاقه نحو جبل حرمون جيث جرى التجلي _ مطابقة الأوصاف
والقرائن على حرمون ( العلو وبعد المسافة وصفة القداسة للجبل ) الواردة في متى 17
و2 بطرس 1\16-18) عن هذا الجبل هي أكثر مما تنطبق على سواه من المواقع الاخرى
:"وبعد ستة أيام اخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه فأصعدهم الى جبل عالٍ على إنفراد
وتجلى قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالثلج" (متى 7/16 26) _ بقاء
جبل حرمون حتى القرن الرابع موقعاً حافلاً بهياكل وثنية متجاورة مع الأديار
المسيحية، تقصدها جماهير الحجاج لإقامة الإحتفالات والمواسم الدينية على أنواعها
وخاصة في ايام الصيف (6 آب) . في هذا الاطار كتب القديس جيروم رسالة الى "عذارى جبل
حرمون " يعرب فيها لهن عن عاطفته مشيرا الى حالته النسكية في البرية ، مذكراً ببعض
تعاليم المسيح في محبة الضعفاء والخطأة ،ومشيدا بفضائل خادمات الله". شكلت تلك
المنطقة في القرون المسيحية الأولى وبخاصة إبان الحرب اليهودية الرومانية، "مراكز
لجوء" . في هذا الصدد يذكر العالم الفرنسي ارنست رينان في مقدمة كتابه "حياة يسوع"
ان بعض اقرباء يسوع كانوا لا يزالون يقيمون في المناطق الواقعة شمالي شرقي فلسطين
حيث حافظ التراث الجليلي على خطه أكثر من اي مذهب آخر، وان الانجيل برواية متى، قد
تمت كتابته في المناطق المشار اليها . نقلاً عن جوليانوس الأفريقي من كتّاب
ودبلوماسيي القرن الثاني الميلادي ان جماعة لها صلة قربى بعائلة المسيح كانت تعيش
هناك. ويعتقد بعض الباحثين ان إقامة هؤلاء الأقارب كانت في بلدة كوكبا اللبنانية
الواقعة في قضاء حاصبيا (بطرس ضو ،لبنان في حياة المسيح، 1980 ، ص 331.وتاريخ سوريا
للمطران يوسف الدبس ،ج4 ص 38-40) و(Dict.de la Bible ,Supplement
,t.vi,Paris1960,col 332) سادسا = على طريق الآباء الأولين ، موطن أقرباء يسوع
واحباء الله : هل قصد المسيح منطقة البقاع وأجزاء اخرى من جنوب لبنان ؟ يستنتج من
الآية التي جاء فيها : "ثم خرج من تخوم صور ومرّ في صيدا وجاء فيما بين تخوم المدن
العشر الى بحر الجليل" (مرقس 7/31)، ان السيد المسيح صعد من صيدا بإتجاه الشرق
مباشرة او الى الشمال الشرقي التفافا حول حرمون باتجاه دمشق ، ليصل في كل من
المسارين الى بحيرة طبريا عبر المدن العشر ومن بينها قيصرية فيليبس وأبيلا (وادي
سوق بردى) ودمشق وسواها من المدن التي يتعدى عددها العشر ليصل الى ثماني عشرة او
عشرين حسب بعض الباحثين . يرى بعض الباحثين أن سهل البقاع ولبنان الشرقي كانا
حافلين بالتذكارات والمزارات المتعلقة بالأباء الأولين، آدم وهابيل وقايين و شيت
ونوح وأولاد نوح. هذه البقعة من الأرض ارتبطت بسيرة هؤلاء الأباء الأولين .لذلك لا
يبدو مستبعداً ان يكون السيد المسيح قد قصد هذه المزارات العديدة ليكرم فيها أباء
العهد القديم والأولياء المشهورين في كتب العهد القديم تاكيدا منه على تواصل رسالة
الانبياء. " لا تظنوا اني جئت لأحل الناموس والأنبياء. ما جئت لأحل بل لأكمل" (متى
5/17 ) .لذلك كانت هذه المقامات من الأهداف الأساسية لرحلة السيد المسيح التي قام
بها بوصفه حاجاً أكثر من وصفه لاجئاً او هارباً من وجه اعدائه الذين كانوا يطاردونه
في الجليل واليهودية بعد أن جاء اكثر من صديق ينصحه : "أخرج من هنا فإن هيرودس يريد
قتلك" ، كما قتل يوحنا المعمدان (لوقا 13/31 ) في سهل البقاع وجنوب لبنان تنتشر
بالفعل أسماء تعود الى عدد من الانبياء والاولياء في زياراته الى اراضي لبنان
فينيقيا اراد المسيح ان يسير بدوره على خطى من سبقوه من الانبياء ومنهم : - هابيل
الذي تحول اسمه أحياناً الى "آبل" أو "أبيل" او "إبل". فأطلقت هذه التسمية على عدد
غير قليل من المدن والقرى أو دخلت في تركيبة اسمائها: آبل القمح،إبل السقي ، عين
إبل ، آبل بيت معكا، آبل السوق، وهي ابيلا (لوقا 3/1) . فلفظة "آبل" وردت حوالي
إثنتي عشرة مرة في الكتاب المقدس، وهي كلها تشير الى معنى من المعاني المتصلة
بشخصية هابيل. لذلك وبناء على ما تقدم لا يبدو مستغرباً ان يقصد المسيح هذه
المواقع، تكريماً منه لذكرى الشهيد الأول للبشرية القديمة، والرمز السابق للمسيح
الشهيد الأول للبشرية الجديدة. تخليداً لذكرى هابيل، الذي تقول عنه التقاليد
المختلفة انه قتل فوق جبل قاسيون في القرب من دمشق ودفن في آبيلا (عاصمة ابيلينه
المذكورة في لوقا 3/1) بنت القديسة هيلانة هناك في القرن الرابع كنيسة كان لا يزال
باقيا منها في القرن السابع عشر "عمودان مرتفعان على منحدر ربوة تبعد عن دمشق ستة
عشر ميلاً ... على هذين العمودين حنية تجعل ما بينهما على هيئة باب، وقريباً من
هناك أخربة كثيرة يستدل منها على ان القديسة هيلانة قد بنت في ذاك الموضع كنيسة
تذكاراً لهابيل البار الذي دفن هناك. في البقاع مواقع اخرى عديدة تحمل أسماء الأباء
الأولين، نذكر منها موقعين بإسم "النبي شيت"، الأول في رياق والآخر قرب حاصبيا
وموقع في جنوب لبنان قرب تبنين ، "برعشيت" وتعني "أرض شيت". من هذه المواقع التي
تحفل بها معاجم أسماء المدن والقرى والبلدات اللبنانية أيضاً "قبر نوح" قرب زحلة و
"كرك نوح" و "هِبلا" ، "وتلفظ ايضا حبلا" ،ابنة نوح. ومن اسماء الأنبياء أيضا "حام"
في لبنان الشرقي، و "حول" ثاني اولاد آرام بن نوح . لعل من هذا الاسم جاء اسم بحيرة
"الحولا" ، التي كانت الى زمن قريب لبنانية، و "ميشا" الإبن الرابع لآرام . من هذا
الأسم جاء اسم "ميس الجبل" .(الأب ضو في كتابه المشار اليه (ص 319 – 224). وغيرها
العديد من اسماء المواقع.) - أحباء الله المقيمون عند العيون في جبل لبنان. - ختاما
وتأكيدا على الطابع التعددي والمسكوني بين الاديان نورد نصا من التراث الديني
المشترك بين الاديان التوحيدية الثلاثة ينقل فيه الفيلسوف والفقيه ابو حامد الغزالي
حوارا بين الله والنبي داود وفيه يطلب داود : "يا رب أرني أهل محبتك".فيجيبه الله :
" يا داود إئت جبل لبنان، فإن فيه اربعة عشر نفسا فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول
.إذا أتيتهم فاقرئهم مني السلام وقل لهم:ان ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا
تسألون حاجة.فإنكم أحبائي وأصفيائي وأوليائي ،أفرح لفرحكم وأسارع الى
محبتكم".فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز
وجل....قال: فجرت الدموع على خدودهم " . على لسان كل واحد من هؤلاء الشيوخ
(اللبنانيين) يضع الغزالي عبارة واحدة ليقول فيها ما هي حاجته: " لا حاجة لنا في
شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق اليك واتمم بذلك المنة علينا". قال آخر
:"...أمنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك".... فأوحى الله الى داود .. قل لهم :
قد سمعت كلامكم وأجبتكم الى ما أحببتم فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه
سربا فإني كاشف الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا الى نوري وجلالي... فقال داود:
يارب بم نالوا هذا منك ؟ قال: بحسن الظن والكف عن الدنيا واهلها والخلوات بي
ومناجاتهم لي وإن هذا منزل لا يناله الا من رفض الدنيا وأهلها......واختارني على
جميع خلقي ، فعند ذلك أعطف عليه ...وأريه كرامتي كل ساعة وأقربه من نور وجهي ، إن
مرض مرضته كما تمرض الوالدة الحنون الشفيقة ولدها....اذا سمع بذكري أباهي به
ملائكتي وأهل سمواتي .... يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدره من النظر الي
حتى يرضى وفوق الرضا". هذه المعالم والمعاني والذكريات التي يطول البحث فيها تشكل
تراثا حسيا وروحيا ثمينا لا للبنان فحسب بل للبشرية جمعاء . كم ينبغي المحافظة عليه
حيا في النفوس ، وعدم الكلل من إلقاء الضوء عليه اليوم اكثر من أي يوم آخر بعدما
اصبح الوطن الصغير برقعته اكثر من موقع جغرافي ، بل رسالة ، كما بات القول به
مأثوراً بعد البابا القديس يوحنا بولس الثاني ، وبعد ان اصبح للبنان أيضا اكثر من
موقع وصفة على الساحة العالمية
mardi 9 janvier 2024
Etudes au sujet = Sur les pas du Christ au sud Liban
Inscription à :
Articles (Atom)