Translate
lundi 5 janvier 2009
dimanche 4 janvier 2009
lundi 29 décembre 2008
dimanche 28 décembre 2008
mardi 23 décembre 2008
dimanche 21 décembre 2008
jeudi 18 décembre 2008
mardi 16 décembre 2008
جذور المسيحية في لبنان-
الأحد 09 تشرين الثاني 2008 - السنة 76 - العدد 23526 النهار
النسخة المطبوعة . بين 1آب -ت1 2008 . بين ت2- ك1 2008
جذورالمسيحية في لبنان -لأنطوان خوري حرب عندمـــا ينطـــق التاريـــخ وعلـــم = Racines du Christianisme au Liban, livre ecrit par A.Kh.Harbالآثـــارالمسيحية
كتبت مي منسى في" النهار"بتاريخ 7-11- 2008ر
الى رصانته العلمية، التاريخية والاركيولوجية، هو كتاب سخي بصوره، ممتع بحكاياته، يأخذك في رحلة سياحية عبر لبنان، منبسطة على كامل اراضيه، واكثر منها تشويقا تلك الرحلة الروحانية الى عمق جذورنا المسيحية في تفرعاتها وانغراسها في هذه التربة من هذا العالم المتوسطي، كما الظروف والمناخات التي نمت فيها المسيحية بدءا من الديانات والمعتقدات الوثنية التي مهدت لها وأرست فيها طقوسا ورموز ومعابد شاهدة على هذا التاريخ القديم، الى ان جاء السيد المسيح مبشرا ومحققا معجزته الاولى في عرس قانا الجليل.في مستهل هذا العمل الشاهق، اعطى المؤلف الكلام للمطران جورج خضر الذي نوه اكثر ما نوه بالمراجع اليونانية واللاتينية التي ذكرها حرب في كتابه والدالة على قيمة العمل واصالته، بحيث لا يترك بقعة انتشرت فيها المسيحية الا يخبر عنها ماضيا وحاضرا، رابطا برؤى صادقة العهود في ما بينها، مدققا بتاريخها وواقعها...المطران جورج خضر وضع في مقدمة الكتاب ختم المفكر والمحلل والعالم في تاريخ الكنيسة منذ بداياتها. من تمعنه في النصوص اعتبر ان هذا الكتاب لا بد ان يترك في نفس قارئه عمق الاثر ويجعله اكثر لصوقا ببلده اذ يأخذه الى تلك الحقيقة المختزنة فيه. في دمجه التاريخ وعلم الاثار في كتاب اقل ما نقول به انه نادر وثمين، وبتنسيق اكاديمي علمي رفيع بين شغف الاكتشاف وواجب التنوير، مضى انطوان خوري حرب في رحلة بطوطية في ارض بلده، جمع بالكلمة والصورة ما منحه التدقيق في الجذور وبلوغ النبع الذي منه اشرقت الديانات حتى استتبت في الدين المسيحي وانتشرت على ساحة الارض اللبنانية، استنادا الى ادلة علمية توفرها المعالم الاثرية للكنائس القديمة التي شيدت بمعظمها على آثار معابد البعل وعشتروت والتي تؤكد ذلك الانتقال المباشر من الوثنية الى المسيحية منذ عهودها الاولى لا سيما في العهد البيزنطي.قبل الدخول الى منبع هذا الكتاب والتعمد في مياهه، هو الحجر العتيق يستوقفنا بمسامه التي ما زالت ترشح بانفاس من سكنوا فيه، هي اشجار الارز الالفية تذكرنا اننا من هنا، هي الكنائس والقرى المترامية في السفوح والوديان والتلال، تشيح عن كاهلنا شبح الخوف من الغد. لكن ما هو هذا الغد، سوى ذلك الزمن الممسوك بخيط الامس؟انطوان خوري حرب حمل تاريخ الوطن واجبا مقدسا في مؤلفاته، من كتابه الاول "اسم لبنان عبر العصور" الى "اصول الشعب اللبناني"، فتاريخ الانتشار اللبناني" و"الكتابة من التصويرية الى مدينة جبيل"، ثم "الديانة اللبنانية القديمة"، الى المعالم الاثرية في الجنوب اللبناني"، و"الموارنة، تاريخ وثوابت" نستدل الى هذه الدرب الواحدة التي اتخذها هذا اللبناني"، العالم في الاثار والتاريخ، امينا على الارث، وفيا للهوية، ثابتا في ايمانه المسيحي والوطني وكلاهما يتخاويان في عقيدة واحدة. فمن مراجع البحث المدونة في آخر الكتاب عربية واجنبية، ومن فهرس الاماكن الجغرافية التي كشف عنها المؤلف يدرك القارىء العمل الجبار الذي قام، متوجا به اعماله السابقة.
التمهيد للمسيحية في ارض لبنان كتاب من ثلاثة اقسام، استهل القسم الاول منه برسالة القديس بولس الى اهل رومة، مدخلا الى الفكر الديني في لبنان القديم، وقبل ان يتطرق المؤلف لموضوع "جذور المسيحية في لبنان"، توقف عند ظاهرة التدين عند اللبنانيين، بدءا بعصور ما قبل التاريخ حتى ظهور المسيحية في نهاية مرحلة التاريخ القديم وذلك في هدف تبيان التهييئات المهمة التي قدمتها ارض لبنان للمسيحية ومهدت لها. من كلمة السيد المسيح "انا ما جئت لابطل بل لأكمل" مشى انطوان خوري حرب في هذا العمل مؤرخا وعالم آثار وموثقا بدقة المعلم وازميل نحات. فمن تنقيباته ان اقدم معالم الفكر الديني في لبنان ظهرت عند انسان انطلياس القديم منذ حوالى اربعين الف سنة، والذي كان يدفن بطقوس قائمة آنذاك على وضع مواد غذائية الى جانبه كما وأدواته الحجرية، ما يشير الى إيمان هذا الانسان القديم بحياة ما بعد الموت. في التركيز على النص والتصميم، نستدل على الثالوث اللبناني – الفينيقي المؤلف من إيل الإله المطلق، وعشتروت الأم الكلية مثالاُ للعنصر الأنثوي، والبعل أدون. توارث اللبنانيون عقيدة عبادة "الإلهة الأم" وطقوسها، من عشتروت أولاً العنصر الأنثوي في الوجود. ومن الصور التي تشكّل هذا الكتاب منحوتة في الحجر للأم المرضعة، وقد التقطها المؤلف في أفقا والى جانبها صورة للسيدة مرم ترضع الطفل، وما يلقننا إياه الدكتور حرب هو أن أبناء أفقا يكرّمون صورة العذراء الأم المرضعة، كما أسلافهم عبدوا عشتروت.. الكتاب الشيّق يمضي بنا الى الأماكن التي بقيت فيها آثار هؤلاء، من أفقا وبعلبك وجبيل، حيث يغدو عالم الآثار راوياً يخبر اسطورة أدون من موته الى قيامته.
المسيح ولبنانالمدخل الى هذا القسم للبابا يوحنا الثاني وما قاله لدى زيارته للبنان عام 1997: "يا رجال ونساء لبنان لقد كان المسيح نفسه أول من نقل الى أسلافكم البشارة الإنجيلية... "ثم بعده ينتقل حرب الى الجليل "موطن الجليلي" وبين تاريخ وجغرافية يعرّفنا على المقوّمات الطبيعية لأرض الجليل وبنية إثنية أهل الجليل. الصور تشل إرث هذا الكتاب الكبير، من حرمون الجبل المقدس والذي عليه تجلّى السيد المسيح أمام تلامذته بطرس ويعقوب ويوحنا، الى مقام النبي شيت وفسيفسائية عن معجزة قانا، وجدرانية السيدة العذراء، ورحلة السيد المسيح الى فينيقية والمدن العشر.يقول هذا الكتاب: "بسبب مجيء السيد المسيح الى صور ثم انتقاله الى صيدا وعبوره المناطق الجنوبية في طريقه الى بحر الجليل، يصح اعتبار ارض الجنوب اللبناني، أرضاً مقدسة شاءها المخلّص ان تكون ذات كرامة خاصة.
انتشار المسيحية في لبنان"اذهبوا الآن وتلمذوا كل الامم، معمدين اياهم باسم الآب والابن والروح القدس".بهذه الوصية للسيد المسيح انطلق الرسل بعد العنصرة ينقلون البشارة الى الأمم، ومع العمل التبشيري بدأ الاضطهاد على يد اليهود أولاً لأنهم كانوا بانتظار مسيح يخلّصهم من التشتت ويحقق لهم ملكوتا أرضياً، في حين ان الديانة الجديدة دعت الى المحبة والتسامح والتحرر من الخطيئة وعدم التمسك بفرائض الناموس اليهودي المتزمت. ثم الرومان المتمسكون بطقوس تقوم على عبادة الآلهة المتعددة الأوصاف والمراتب.الأسلوب مشوّق، يعيد الى الذاكرة تفاصيل منسية من أسماء الذين استشهدوا في الزمن الأول لانتشار المسيحية، كما نستعيد اسم الفيلسوف بورفيريوس الصوري الأصل والذي تصدى بعلمه وفكره للعقيدة المسيحية في القرن الثالث بعد الميلاد. ومن أشهر مؤلفاته "حياة أفلاطون" و"حياة فيتاغور" و"تاريخ الفلسفة" وكتاب "الايساغوجي" الذي يعتبر من أعظم الكتب التي طبعت القرون الوسطى بطابعها.من الدين الى الفلسفة يأخذك هذا المؤرخ المطلع في الزمن، ولا يمر على الأحداث بسطحية، بل تحفر معه وتتلقى من دروس الماضي ما تعيشه اليوم.اسمعه يروي لك قصة هذا الفيلسوف بورفيريوس الذي كان من كبار مناهضي المسيحية، في خمسة عشر مؤلفا بعنوان "ضد المسيحية". وبالرغم من ذلك اعتبره القديس والفيلسوف اغوسطينوس أعلم الفلاسفة، كما تصدى له أسقف صور ميتوديوس، وكتب ضد المرافعات دفاعاً عن المسيحية، الى أن استشهد في اليونان على يد السلطة الرومانية المتمسكة آنذاك بعقيدتها الوثنية.ويتابع انطوان خوري حرب يروي التاريخ هذا مرتكزاً على الوثائق القديمة، منوّراً أمامك انتشار المسيحية في العالم، بالصور والحفريات الأثرية والفسيفسائيات، وأنت بين قراءة ومتعة الألوان تغدو ذاك الإنسان القديم العائد الى دياره بعد ألفي سنة يتفقد الدروب التي عبرها السيد المسيح وأرسى فيها تعاليمه ومعجزاته.ومع تقدمك في الاطلاع على تاريخك في هذا الكتاب الكبير، الواسع وسع التراث، يصبح النص متخاوياً مع هذا الكم الهائل من الآثار. وتتساءل لماذا لبنان الصغير بمساحته، قدّر له أن يكون مهداً للفكر الديني، وأرضاً خصبة للعقائد التي تتالت عليه وتركت في معابدها ومنحوتاتها آثارها حتى مجيء المسيحية التي رسّخت على أنقاض المعابد دين المحبة والتسامح الذي جاء له المسيح مبشّراً؟
مي منسى
الى رصانته العلمية، التاريخية والاركيولوجية، هو كتاب سخي بصوره، ممتع بحكاياته، يأخذك في رحلة سياحية عبر لبنان، منبسطة على كامل اراضيه، واكثر منها تشويقا تلك الرحلة الروحانية الى عمق جذورنا المسيحية في تفرعاتها وانغراسها في هذه التربة من هذا العالم المتوسطي، كما الظروف والمناخات التي نمت فيها المسيحية بدءا من الديانات والمعتقدات الوثنية التي مهدت لها وأرست فيها طقوسا ورموز ومعابد شاهدة على هذا التاريخ القديم، الى ان جاء السيد المسيح مبشرا ومحققا معجزته الاولى في عرس قانا الجليل.في مستهل هذا العمل الشاهق، اعطى المؤلف الكلام للمطران جورج خضر الذي نوه اكثر ما نوه بالمراجع اليونانية واللاتينية التي ذكرها حرب في كتابه والدالة على قيمة العمل واصالته، بحيث لا يترك بقعة انتشرت فيها المسيحية الا يخبر عنها ماضيا وحاضرا، رابطا برؤى صادقة العهود في ما بينها، مدققا بتاريخها وواقعها...المطران جورج خضر وضع في مقدمة الكتاب ختم المفكر والمحلل والعالم في تاريخ الكنيسة منذ بداياتها. من تمعنه في النصوص اعتبر ان هذا الكتاب لا بد ان يترك في نفس قارئه عمق الاثر ويجعله اكثر لصوقا ببلده اذ يأخذه الى تلك الحقيقة المختزنة فيه. في دمجه التاريخ وعلم الاثار في كتاب اقل ما نقول به انه نادر وثمين، وبتنسيق اكاديمي علمي رفيع بين شغف الاكتشاف وواجب التنوير، مضى انطوان خوري حرب في رحلة بطوطية في ارض بلده، جمع بالكلمة والصورة ما منحه التدقيق في الجذور وبلوغ النبع الذي منه اشرقت الديانات حتى استتبت في الدين المسيحي وانتشرت على ساحة الارض اللبنانية، استنادا الى ادلة علمية توفرها المعالم الاثرية للكنائس القديمة التي شيدت بمعظمها على آثار معابد البعل وعشتروت والتي تؤكد ذلك الانتقال المباشر من الوثنية الى المسيحية منذ عهودها الاولى لا سيما في العهد البيزنطي.قبل الدخول الى منبع هذا الكتاب والتعمد في مياهه، هو الحجر العتيق يستوقفنا بمسامه التي ما زالت ترشح بانفاس من سكنوا فيه، هي اشجار الارز الالفية تذكرنا اننا من هنا، هي الكنائس والقرى المترامية في السفوح والوديان والتلال، تشيح عن كاهلنا شبح الخوف من الغد. لكن ما هو هذا الغد، سوى ذلك الزمن الممسوك بخيط الامس؟انطوان خوري حرب حمل تاريخ الوطن واجبا مقدسا في مؤلفاته، من كتابه الاول "اسم لبنان عبر العصور" الى "اصول الشعب اللبناني"، فتاريخ الانتشار اللبناني" و"الكتابة من التصويرية الى مدينة جبيل"، ثم "الديانة اللبنانية القديمة"، الى المعالم الاثرية في الجنوب اللبناني"، و"الموارنة، تاريخ وثوابت" نستدل الى هذه الدرب الواحدة التي اتخذها هذا اللبناني"، العالم في الاثار والتاريخ، امينا على الارث، وفيا للهوية، ثابتا في ايمانه المسيحي والوطني وكلاهما يتخاويان في عقيدة واحدة. فمن مراجع البحث المدونة في آخر الكتاب عربية واجنبية، ومن فهرس الاماكن الجغرافية التي كشف عنها المؤلف يدرك القارىء العمل الجبار الذي قام، متوجا به اعماله السابقة.
التمهيد للمسيحية في ارض لبنان كتاب من ثلاثة اقسام، استهل القسم الاول منه برسالة القديس بولس الى اهل رومة، مدخلا الى الفكر الديني في لبنان القديم، وقبل ان يتطرق المؤلف لموضوع "جذور المسيحية في لبنان"، توقف عند ظاهرة التدين عند اللبنانيين، بدءا بعصور ما قبل التاريخ حتى ظهور المسيحية في نهاية مرحلة التاريخ القديم وذلك في هدف تبيان التهييئات المهمة التي قدمتها ارض لبنان للمسيحية ومهدت لها. من كلمة السيد المسيح "انا ما جئت لابطل بل لأكمل" مشى انطوان خوري حرب في هذا العمل مؤرخا وعالم آثار وموثقا بدقة المعلم وازميل نحات. فمن تنقيباته ان اقدم معالم الفكر الديني في لبنان ظهرت عند انسان انطلياس القديم منذ حوالى اربعين الف سنة، والذي كان يدفن بطقوس قائمة آنذاك على وضع مواد غذائية الى جانبه كما وأدواته الحجرية، ما يشير الى إيمان هذا الانسان القديم بحياة ما بعد الموت. في التركيز على النص والتصميم، نستدل على الثالوث اللبناني – الفينيقي المؤلف من إيل الإله المطلق، وعشتروت الأم الكلية مثالاُ للعنصر الأنثوي، والبعل أدون. توارث اللبنانيون عقيدة عبادة "الإلهة الأم" وطقوسها، من عشتروت أولاً العنصر الأنثوي في الوجود. ومن الصور التي تشكّل هذا الكتاب منحوتة في الحجر للأم المرضعة، وقد التقطها المؤلف في أفقا والى جانبها صورة للسيدة مرم ترضع الطفل، وما يلقننا إياه الدكتور حرب هو أن أبناء أفقا يكرّمون صورة العذراء الأم المرضعة، كما أسلافهم عبدوا عشتروت.. الكتاب الشيّق يمضي بنا الى الأماكن التي بقيت فيها آثار هؤلاء، من أفقا وبعلبك وجبيل، حيث يغدو عالم الآثار راوياً يخبر اسطورة أدون من موته الى قيامته.
المسيح ولبنانالمدخل الى هذا القسم للبابا يوحنا الثاني وما قاله لدى زيارته للبنان عام 1997: "يا رجال ونساء لبنان لقد كان المسيح نفسه أول من نقل الى أسلافكم البشارة الإنجيلية... "ثم بعده ينتقل حرب الى الجليل "موطن الجليلي" وبين تاريخ وجغرافية يعرّفنا على المقوّمات الطبيعية لأرض الجليل وبنية إثنية أهل الجليل. الصور تشل إرث هذا الكتاب الكبير، من حرمون الجبل المقدس والذي عليه تجلّى السيد المسيح أمام تلامذته بطرس ويعقوب ويوحنا، الى مقام النبي شيت وفسيفسائية عن معجزة قانا، وجدرانية السيدة العذراء، ورحلة السيد المسيح الى فينيقية والمدن العشر.يقول هذا الكتاب: "بسبب مجيء السيد المسيح الى صور ثم انتقاله الى صيدا وعبوره المناطق الجنوبية في طريقه الى بحر الجليل، يصح اعتبار ارض الجنوب اللبناني، أرضاً مقدسة شاءها المخلّص ان تكون ذات كرامة خاصة.
انتشار المسيحية في لبنان"اذهبوا الآن وتلمذوا كل الامم، معمدين اياهم باسم الآب والابن والروح القدس".بهذه الوصية للسيد المسيح انطلق الرسل بعد العنصرة ينقلون البشارة الى الأمم، ومع العمل التبشيري بدأ الاضطهاد على يد اليهود أولاً لأنهم كانوا بانتظار مسيح يخلّصهم من التشتت ويحقق لهم ملكوتا أرضياً، في حين ان الديانة الجديدة دعت الى المحبة والتسامح والتحرر من الخطيئة وعدم التمسك بفرائض الناموس اليهودي المتزمت. ثم الرومان المتمسكون بطقوس تقوم على عبادة الآلهة المتعددة الأوصاف والمراتب.الأسلوب مشوّق، يعيد الى الذاكرة تفاصيل منسية من أسماء الذين استشهدوا في الزمن الأول لانتشار المسيحية، كما نستعيد اسم الفيلسوف بورفيريوس الصوري الأصل والذي تصدى بعلمه وفكره للعقيدة المسيحية في القرن الثالث بعد الميلاد. ومن أشهر مؤلفاته "حياة أفلاطون" و"حياة فيتاغور" و"تاريخ الفلسفة" وكتاب "الايساغوجي" الذي يعتبر من أعظم الكتب التي طبعت القرون الوسطى بطابعها.من الدين الى الفلسفة يأخذك هذا المؤرخ المطلع في الزمن، ولا يمر على الأحداث بسطحية، بل تحفر معه وتتلقى من دروس الماضي ما تعيشه اليوم.اسمعه يروي لك قصة هذا الفيلسوف بورفيريوس الذي كان من كبار مناهضي المسيحية، في خمسة عشر مؤلفا بعنوان "ضد المسيحية". وبالرغم من ذلك اعتبره القديس والفيلسوف اغوسطينوس أعلم الفلاسفة، كما تصدى له أسقف صور ميتوديوس، وكتب ضد المرافعات دفاعاً عن المسيحية، الى أن استشهد في اليونان على يد السلطة الرومانية المتمسكة آنذاك بعقيدتها الوثنية.ويتابع انطوان خوري حرب يروي التاريخ هذا مرتكزاً على الوثائق القديمة، منوّراً أمامك انتشار المسيحية في العالم، بالصور والحفريات الأثرية والفسيفسائيات، وأنت بين قراءة ومتعة الألوان تغدو ذاك الإنسان القديم العائد الى دياره بعد ألفي سنة يتفقد الدروب التي عبرها السيد المسيح وأرسى فيها تعاليمه ومعجزاته.ومع تقدمك في الاطلاع على تاريخك في هذا الكتاب الكبير، الواسع وسع التراث، يصبح النص متخاوياً مع هذا الكم الهائل من الآثار. وتتساءل لماذا لبنان الصغير بمساحته، قدّر له أن يكون مهداً للفكر الديني، وأرضاً خصبة للعقائد التي تتالت عليه وتركت في معابدها ومنحوتاتها آثارها حتى مجيء المسيحية التي رسّخت على أنقاض المعابد دين المحبة والتسامح الذي جاء له المسيح مبشّراً؟
مي منسى
vendredi 12 décembre 2008
Les bien aimes de Dieu sont au Liban par Ghazali
قال داود يا رب أرنى أهل محبتك
فقال يا داود أئت جبل لبنان
فإن فيه أربعة عشر نفسا فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول
فإذا أتيتهم فأقرئهم منى السلام وقل لهم إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم
ألا تسألون حاجة فإنكم أحبائى وأصفيائى وأوليائى أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم
فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز وجل
فلما نظروا إلى داود عليه السلام نهضوا ليتفرقوا عنه
فقال داود إنى رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم "
C’est un extrait du livre de Ghazali ( IHYA ‘ OULOUM Eddine ) sur l’amour divin.Il est tres frappant de lire dans une citation attribuee a David et rapportee par Ghazali lui-meme que les veritables amants de Dieu vivent au Mont-Liban.En voici Voici le texte :
ب المحبة والشوق والأنس والرضا وهو الكتاب السادس من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين
http://www.ghazali.org/ihya/ihya.htm
وأما شواهد الأخبار والآثار فأكثر من أن تحصى فمما اشتهر من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
اللهم إنى أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك
حديث أنه كان يقول في دعائه اللهم إنى أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت الحديث أخرجه أحمد والحاكم وتقدم في الدعوات
وقال أبو الدرداء لكعب أخبرني عن أخص آية يعنى في التوراة فقال يقول الله تعالى طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقا قال ومكتوب إلى جانبها من طلبنى وجدنى ومن طلب غيرى لم يجدنى
فقال أبو الدرداء أشهد أنى لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا
وفي أخبار داود عليه السلام إن الله تعالى قال يا داود أبلغ أهل أرضي أنى حبيب لمن أحبنى وجليس لمن جالسنى ومؤنس لمن أنس بذكرى وصاحب لمن صاحبنى ومختار لمن اختارنى ومطيع لمن أطاعنى ما أحبنى عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسى وأحببته حبا لا يتقدمه أحد من خلقى من طلبنى بالحق وجدنى ومن طلب غيرى لم يجدنى فارفضوا يا أهل الارض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتى ومصاحبتى ومجالستى وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم فإنى خلقت طينة أحبائى من طينة إبراهيم خليلى وموسى نجي ومحمد صفي وخلقت قلوب المشتاقين من نورى ونعمتها بجلالى
وروى عن بعض السلف أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين إن لى عبادا من عبادى يحبونى وأحبهم ويشتاقون إلى وأشتاق إليهم ويذكرونى وأذكرهم وينظرون إلى وأنظر إليهم فأن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك قال يارب وما علامتهم قال يراعون الظلال بالنهار كما يراعى الراعى الشفيق غنمه ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجونى بكلامى وتملقوا إلى بإنعامى فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد بعينى ما يتحملون من أجلى وبسمعى ما يشتكون من حبى أول ما أعطيهم ثلاث أقذف من نورى في قلوبهم فيخبرون عنى كما أخبر عنهم والثانية لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللنها لهم والثالثة أقبل بوجهى عليهم فترى من أقبلت عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه
وفي أخبار داود عليه السلام إن الله تعالى أوحى إليه يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألنى الشوق إلى
قال يا رب من المشتاقون إليك قال إن المشتاقين إلى الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلى خرقا ينظرون إلى وإنى لأحمل قلوبهم بيدى فأضعها على سمائى ثم أدعو نجباء ملائكتى فإذا اجتمعوا سجدوا لى فأقول إنى لم أدعكم لتسجدوا لى ولكنى دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلى وأباهى بكم أهل الشوق إلى فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتى كما تضيء الشمس لأهل الارض يا داود إنى خلقت قلوب المشتاقين من رضوانى ونعمتها بنور وجهى فاتخذتهم لنفسى محدثى وجعلت أبدانهم موضع نظرى إلى الأرض وقطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلى يزدادون في كل يوم شوقا
قال دود يا رب أرنى أهل محبتك فقال يا داود أئت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفسا فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول فإذا أتيتهم فأقرئهم منى السلام وقل لهم إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة فإنكم أحبائى وأصفيائى وأوليائى أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم
فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز وجل فلما نظروا إلى داود عليه السلام نهضوا ليتفرقوا عنه فقال داود إنى رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم
فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الارض
فقال داود إنى رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة ألا تنادونى أسمع صوتكم وكلامكم فإنكم أحبائى وأصفيائى وأوليائى أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة
قال فجرت الدموع على خدودهم
فقال شيخهم سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا
وقال الآخر سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فامنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك
وقال الآخر سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيد أفنجترىء على الدعاء وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا
وقال الآخر نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا علينا بجودك
وقال الآخر من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترىء على الكلام من هو مشتغل بعظمتك متفكر في جلالك وطلبتنا الدنو من نورك
وقال الآخر كلت ألسنتنا عن دعائك لعظم شأنك وقربك من أوليائك وكثرة منتك على أهل محبتك
وقال الآخر أنت هديت قلوبنا لذكرك فرغتنا للاشتغال بك فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك
وقال الآخر قد عرفت حاجتنا إنما هى النظر إلى وجهك
وقال الآخر كيف يجترىء العبد على سيده إذ أمرتنا بالدعاء بجودك فهب لنا نورا نهتدى به في الظلمات من أطباق السموات
وقال آخر ندعوك أن تقبل علينا وتديمه عندنا
وقال الآخر نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا
وقال الآخر لا حاجة لنا في شيء من خلقك فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك
وقال الآخر أسألك من بينهم أن تعمى عينى عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبى عن الإشتغال بالآخرة
وقال الآخر قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك
فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل لهم قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سربا فإنى كاشف الحجاب فيما بينى وبينكم حتى تنظروا إلى نورى وجلالى
فقال داود يارب بم نالوا هذا منك قال بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لى وإن هذا منزل لا يناله إلى من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارنى على جميع خلقى فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بينى وبينه حتى ينظر إلى نظر الناظر بعينه إلى الشيء وأريه كرامتى في كل ساعة وأقربه من نور وجهى إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها وإن عطش أرويته وأذيقه طعم ذكرى فإذا فعلت ذلك به يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه لا يفتر عن الاشتغال بي يستعجلنى القدوم وأنا أكره أن أميته لأنه موضع نظرى من بين خلقي لا يرى غيرى ولا أرى غيره فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكرى أباهى به ملائكتى وأهل سمواتى يزداد خوفا وعبادة وعزتي وجلالى يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدره من النظر إلى حتى يرضى وفوق الرضا
http://www.ghazali.org/ihya/ihya.htm
وأما شواهد الأخبار والآثار فأكثر من أن تحصى فمما اشتهر من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:
اللهم إنى أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك
حديث أنه كان يقول في دعائه اللهم إنى أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت الحديث أخرجه أحمد والحاكم وتقدم في الدعوات
وقال أبو الدرداء لكعب أخبرني عن أخص آية يعنى في التوراة فقال يقول الله تعالى طال شوق الأبرار إلى لقائي وإني إلى لقائهم لأشد شوقا قال ومكتوب إلى جانبها من طلبنى وجدنى ومن طلب غيرى لم يجدنى
فقال أبو الدرداء أشهد أنى لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا
وفي أخبار داود عليه السلام إن الله تعالى قال يا داود أبلغ أهل أرضي أنى حبيب لمن أحبنى وجليس لمن جالسنى ومؤنس لمن أنس بذكرى وصاحب لمن صاحبنى ومختار لمن اختارنى ومطيع لمن أطاعنى ما أحبنى عبد أعلم ذلك يقينا من قلبه إلا قبلته لنفسى وأحببته حبا لا يتقدمه أحد من خلقى من طلبنى بالحق وجدنى ومن طلب غيرى لم يجدنى فارفضوا يا أهل الارض ما أنتم عليه من غرورها وهلموا إلى كرامتى ومصاحبتى ومجالستى وائنسوا بي أؤانسكم وأسارع إلى محبتكم فإنى خلقت طينة أحبائى من طينة إبراهيم خليلى وموسى نجي ومحمد صفي وخلقت قلوب المشتاقين من نورى ونعمتها بجلالى
وروى عن بعض السلف أن الله تعالى أوحى إلى بعض الصديقين إن لى عبادا من عبادى يحبونى وأحبهم ويشتاقون إلى وأشتاق إليهم ويذكرونى وأذكرهم وينظرون إلى وأنظر إليهم فأن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك قال يارب وما علامتهم قال يراعون الظلال بالنهار كما يراعى الراعى الشفيق غنمه ويحنون إلى غروب الشمس كما يحن الطائر إلى وكره عند الغروب فإذا جنهم الليل واختلط الظلام وفرشت الفرش ونصبت الأسرة وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلى أقدامهم وافترشوا إلى وجوههم وناجونى بكلامى وتملقوا إلى بإنعامى فبين صارخ وباك وبين متأوه وشاك وبين قائم وقاعد وبين راكع وساجد بعينى ما يتحملون من أجلى وبسمعى ما يشتكون من حبى أول ما أعطيهم ثلاث أقذف من نورى في قلوبهم فيخبرون عنى كما أخبر عنهم والثانية لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لاستقللنها لهم والثالثة أقبل بوجهى عليهم فترى من أقبلت عليه يعلم أحد ما أريد أن أعطيه
وفي أخبار داود عليه السلام إن الله تعالى أوحى إليه يا داود إلى كم تذكر الجنة ولا تسألنى الشوق إلى
قال يا رب من المشتاقون إليك قال إن المشتاقين إلى الذين صفيتهم من كل كدر ونبهتهم بالحذر وخرقت من قلوبهم إلى خرقا ينظرون إلى وإنى لأحمل قلوبهم بيدى فأضعها على سمائى ثم أدعو نجباء ملائكتى فإذا اجتمعوا سجدوا لى فأقول إنى لم أدعكم لتسجدوا لى ولكنى دعوتكم لأعرض عليكم قلوب المشتاقين إلى وأباهى بكم أهل الشوق إلى فإن قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتى كما تضيء الشمس لأهل الارض يا داود إنى خلقت قلوب المشتاقين من رضوانى ونعمتها بنور وجهى فاتخذتهم لنفسى محدثى وجعلت أبدانهم موضع نظرى إلى الأرض وقطعت من قلوبهم طريقا ينظرون به إلى يزدادون في كل يوم شوقا
قال دود يا رب أرنى أهل محبتك فقال يا داود أئت جبل لبنان فإن فيه أربعة عشر نفسا فيهم شبان وفيهم شيوخ وفيهم كهول فإذا أتيتهم فأقرئهم منى السلام وقل لهم إن ربكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة فإنكم أحبائى وأصفيائى وأوليائى أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم
فأتاهم داود عليه السلام فوجدهم عند عين من العيون يتفكرون في عظمة الله عز وجل فلما نظروا إلى داود عليه السلام نهضوا ليتفرقوا عنه فقال داود إنى رسول الله إليكم جئتكم لأبلغكم رسالة ربكم
فأقبلوا نحوه وألقوا أسماعهم نحو قوله وألقوا أبصارهم إلى الارض
فقال داود إنى رسول الله إليكم يقرئكم السلام ويقول لكم ألا تسألون حاجة ألا تنادونى أسمع صوتكم وكلامكم فإنكم أحبائى وأصفيائى وأوليائى أفرح لفرحكم وأسارع إلى محبتكم وأنظر إليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة
قال فجرت الدموع على خدودهم
فقال شيخهم سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فاغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك فيما مضى من أعمارنا
وقال الآخر سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيدك فامنن علينا بحسن النظر فيما بيننا وبينك
وقال الآخر سبحانك سبحانك نحن عبيدك وبنو عبيد أفنجترىء على الدعاء وقد علمت أنه لا حاجة لنا في شيء من أمورنا فأدم لنا لزوم الطريق إليك وأتمم بذلك المنة علينا
وقال الآخر نحن مقصرون في طلب رضاك فأعنا علينا بجودك
وقال الآخر من نطفة خلقتنا ومننت علينا بالتفكر في عظمتك أفيجترىء على الكلام من هو مشتغل بعظمتك متفكر في جلالك وطلبتنا الدنو من نورك
وقال الآخر كلت ألسنتنا عن دعائك لعظم شأنك وقربك من أوليائك وكثرة منتك على أهل محبتك
وقال الآخر أنت هديت قلوبنا لذكرك فرغتنا للاشتغال بك فاغفر لنا تقصيرنا في شكرك
وقال الآخر قد عرفت حاجتنا إنما هى النظر إلى وجهك
وقال الآخر كيف يجترىء العبد على سيده إذ أمرتنا بالدعاء بجودك فهب لنا نورا نهتدى به في الظلمات من أطباق السموات
وقال آخر ندعوك أن تقبل علينا وتديمه عندنا
وقال الآخر نسألك تمام نعمتك فيما وهبت لنا وتفضلت به علينا
وقال الآخر لا حاجة لنا في شيء من خلقك فامنن علينا بالنظر إلى جمال وجهك
وقال الآخر أسألك من بينهم أن تعمى عينى عن النظر إلى الدنيا وأهلها وقلبى عن الإشتغال بالآخرة
وقال الآخر قد عرفت تباركت وتعاليت أنك تحب أولياءك فامنن علينا باشتغال القلب بك عن كل شيء دونك
فأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام قل لهم قد سمعت كلامكم وأجبتكم إلى ما أحببتم فليفارق كل واحد منكم صاحبه وليتخذ لنفسه سربا فإنى كاشف الحجاب فيما بينى وبينكم حتى تنظروا إلى نورى وجلالى
فقال داود يارب بم نالوا هذا منك قال بحسن الظن والكف عن الدنيا وأهلها والخلوات بي ومناجاتهم لى وإن هذا منزل لا يناله إلى من رفض الدنيا وأهلها ولم يشتغل بشيء من ذكرها وفرغ قلبه لي واختارنى على جميع خلقى فعند ذلك أعطف عليه وأفرغ نفسه وأكشف الحجاب فيما بينى وبينه حتى ينظر إلى نظر الناظر بعينه إلى الشيء وأريه كرامتى في كل ساعة وأقربه من نور وجهى إن مرض مرضته كما تمرض الوالدة الشفيقة ولدها وإن عطش أرويته وأذيقه طعم ذكرى فإذا فعلت ذلك به يا داود عميت نفسه عن الدنيا وأهلها ولم أحببها إليه لا يفتر عن الاشتغال بي يستعجلنى القدوم وأنا أكره أن أميته لأنه موضع نظرى من بين خلقي لا يرى غيرى ولا أرى غيره فلو رأيته يا داود وقد ذابت نفسه ونحل جسمه وتهشمت أعضاؤه وانخلع قلبه إذا سمع بذكرى أباهى به ملائكتى وأهل سمواتى يزداد خوفا وعبادة وعزتي وجلالى يا داود لأقعدنه في الفردوس ولأشفين صدره من النظر إلى حتى يرضى وفوق الرضا
vendredi 28 novembre 2008
liban, PATRIMOINE ET PERENNITE
لبنــان تراثــاً وأزلاً
بقلم الفيلسوف الراحل الدكتور شارل مالك
بحثي في الشؤون الخطيرة دائماً بحثّ كياني. هذا الضرب من البحث يضع الانسان الموجود بالفعل، المصارع الحياة والموت، في مركز النظر لبنــان . البحث الكياني لا يحوم حول الموضوع، ولا يتهرّب منه الى أطرافه وهوامشه. انما يرسو فوراً على الموضوع الموضوع، الذي هو في كلّ شيء الانسان الحيّ المائت. اذ لا قيمة ولا معنى لأيّ شيء الاّ بالمركز الذي يحتلّه، وبالوظيفة التي يشغلها، في كيان الانسان. فانا أرى الانسان الموجود الحيّ، وبالتالي الانسان المائت، وراء كلّ شيء.
بالنسبة لبحث لبنان كيانياً، فهو يتناول لبنان كياناً ومصيراً، كما يتناول لبنان تراثاً وأزلاً. ولقد سبق أن عالجت موضوع لبنان كياناً ومصيراً في السابق، وأنا الآن أبحث في لبنان تراثاً وأزلاً.
ولدى بحث لبنان كياناً ومصيراً، حددت أولاً، خصائص كيانه، وما يتألف منه،
وعينّت الأعمدة العشرة لهذا الكيان : 1-
بقلم الفيلسوف الراحل الدكتور شارل مالك
بحثي في الشؤون الخطيرة دائماً بحثّ كياني. هذا الضرب من البحث يضع الانسان الموجود بالفعل، المصارع الحياة والموت، في مركز النظر لبنــان . البحث الكياني لا يحوم حول الموضوع، ولا يتهرّب منه الى أطرافه وهوامشه. انما يرسو فوراً على الموضوع الموضوع، الذي هو في كلّ شيء الانسان الحيّ المائت. اذ لا قيمة ولا معنى لأيّ شيء الاّ بالمركز الذي يحتلّه، وبالوظيفة التي يشغلها، في كيان الانسان. فانا أرى الانسان الموجود الحيّ، وبالتالي الانسان المائت، وراء كلّ شيء.
بالنسبة لبحث لبنان كيانياً، فهو يتناول لبنان كياناً ومصيراً، كما يتناول لبنان تراثاً وأزلاً. ولقد سبق أن عالجت موضوع لبنان كياناً ومصيراً في السابق، وأنا الآن أبحث في لبنان تراثاً وأزلاً.
ولدى بحث لبنان كياناً ومصيراً، حددت أولاً، خصائص كيانه، وما يتألف منه،
وعينّت الأعمدة العشرة لهذا الكيان : 1-
1-هذا الجبل الفريد،
2- القرية اللبنانية الفذّة،
3- مركز لبنان السياحي المميّز،
4- تجارته العالمية الفريدة،
5 - ظاهرة الاغتراب اللبناني بكل ما تعنيه تاريخياً وكيانياً،
6- التواجد المسيحي الاسلامي السمح الرائع،
7 - الحرية الشخصية الكيانية المسؤولة،
8- الانفتاح على العالم في بعدي الزمان والمكان،
9- معنى لبنان الفكري المتواضع في الشرق الأوسط وفي العالم،
10- اسهام لبنان في المعترك الدولي، على محدوديّته وتواضعه.
وقد حددت القيم الأساسية الأخيرة، ثانياً، وهي القيم التي لا مصير للبنان الاّ بوجودها حيّة فاعلة فيه، وعينّت هذه القيم على أنها قيم ستّ :
وقد حددت القيم الأساسية الأخيرة، ثانياً، وهي القيم التي لا مصير للبنان الاّ بوجودها حيّة فاعلة فيه، وعينّت هذه القيم على أنها قيم ستّ :
1- الحقيقة،
2- العقل،
3-الانسان،
4-الحرية،
5-المحبة،
6-الله.
أما بحثي الآن فينحصر في لبنان تراثاً وأزلاً، أي انه يتعلق بالتراث اللبناني، وما يتألّف منه، وما يفترضه، وما يعنيه، وهل ثمة نظرة أزلية للبنان، ينبع منها ويؤول اليها كيانه ومصيره وتراثه معاً. الاّ أن الأبحاث الأربعة، في الكيان، والمصير، والتراث، والأزل، تتداخل وتتكامل فيما بينها، حتى اذا وفينا هذه الأبحاث حقها، غايةً ومادة، نكون قد اتممنا بحثنا الكياني في الشأن اللبناني. نكون قد عرفنا أنفسنا بالفعل.
التراث في كونه الشيء الموروث عن الجدود، يتضمن بعد الماضي في حدّ ذاته. ولكنّ التراث شيء حي، أي أن الحاضر يحياه ويحفظه، ولولا ذلك لما كان.- أما التراث الذي ينطوي على نفسه، ويقبع في ماضيه، دون أن يتطلع الى مستقبل، فلا يعرف، حتى أهلوه، أنه تراث.
الوجود الحقيقي هو المستقبل الفاعل في الحاضر والمتبنّي التراث. فمن لا مستقبل له يحيى حاضره كأنّه ميت، وليس له، بالتالي، أيّ تراث.- انّ تواصل الزمن، دون تقطّعه وتناوبه، هو المبدأ الذي انطلق منه في تحديد الأفكار والأشياء. أما المستقبل المترامي بأبعاده فهو الحاسم في أمر هذا التواصل. ولذلك فان تطلعي كلّه مستقبلي. من المستقبل استمدّ قوتي وحماستي، فالمستقبل يحيى الحاضر، ويغرف من الماضي ما يحتاج اليه. المستقبل يحسم حياة الحاضر وتراث الماضي في آن معاً.
والتراث الحيّ هو تواصل الزمن الذي يقرّره المستقبل المترامي بأبعاده، وكل ما ليس يؤتي نفعه مستقبلياً، مما عفى عليه الدهر، ليس من التراث في شيء. فالتطلّع الى الماضي وحده نوع من الموت، والعيش في الاوان الحاضر وحده عيش حيواني، لأن الحيوان فقط ليس له بعد ماض ولا بعد مستقبل. أما الانسان، فيعيش أولاً في مستقبله، وثانياً في ماضيه، وثالثاً في حاضره.
من هنا أهمية ما اسمّيه " بالمؤسسة "، التي يتجسّد فيها التراث، ويتطلع الى المستقبل. وأعني " بالمؤسسة " نمطاً مشتركاً مستقراً من العيش والحكم والتعبير، يرمي الى هدف معين، ويتراضى عليه الناس، وينظّمون وجودهم على أساسه. الحاسم بشأن " المؤسسة " هو المشاركة، والاستقرار، والتراضي، والهدف الواحد، والتنظيم على أساس أصول وقواعد.
" المؤسسة " اذن تجسيد التراث. واذا قلت تراثاً، دون أن تقول " مؤسسة "، فأنت لا تقول شيئاً معّيناً واضحاً. ولا بدّ لك، ان كنت تبحث عن تراثك، ان تبحث أولاً عن مؤسّساته. فلا تراث على الاطلاق في الخيال أو التصّور الفردي، بل أنه يتجسد في المؤسسة الجماعية.-لذلك، فان بحثنا عن التراث اللبناني، هو بحث عن المؤسسات اللبنانية التي ينصب فيها التراث ويكون. حيث لا مؤسسة، فلا تراث، وحيث تراث، فثمّة حتماً مؤسسة.
ينتج عن هذا أن القول باحياء التراث هو القول بتعزيز المؤسسات التراثية، أن بخلق مؤسسات تراثية جديدة، لأنّ كلّ ما هو تراث يكمن في " المؤسسة " وينبع منها.- تأكيدي اذن على أمرين أساسيين :
المستقبل الذي يحسم كل شيء بشأن التراث.
والمؤسسة التي يتجسد فيها التراث، والتي لا مستقبل، أي لا وجود، للتراث الاّ في اطارها.
أما بحثي الآن فينحصر في لبنان تراثاً وأزلاً، أي انه يتعلق بالتراث اللبناني، وما يتألّف منه، وما يفترضه، وما يعنيه، وهل ثمة نظرة أزلية للبنان، ينبع منها ويؤول اليها كيانه ومصيره وتراثه معاً. الاّ أن الأبحاث الأربعة، في الكيان، والمصير، والتراث، والأزل، تتداخل وتتكامل فيما بينها، حتى اذا وفينا هذه الأبحاث حقها، غايةً ومادة، نكون قد اتممنا بحثنا الكياني في الشأن اللبناني. نكون قد عرفنا أنفسنا بالفعل.
التراث في كونه الشيء الموروث عن الجدود، يتضمن بعد الماضي في حدّ ذاته. ولكنّ التراث شيء حي، أي أن الحاضر يحياه ويحفظه، ولولا ذلك لما كان.- أما التراث الذي ينطوي على نفسه، ويقبع في ماضيه، دون أن يتطلع الى مستقبل، فلا يعرف، حتى أهلوه، أنه تراث.
الوجود الحقيقي هو المستقبل الفاعل في الحاضر والمتبنّي التراث. فمن لا مستقبل له يحيى حاضره كأنّه ميت، وليس له، بالتالي، أيّ تراث.- انّ تواصل الزمن، دون تقطّعه وتناوبه، هو المبدأ الذي انطلق منه في تحديد الأفكار والأشياء. أما المستقبل المترامي بأبعاده فهو الحاسم في أمر هذا التواصل. ولذلك فان تطلعي كلّه مستقبلي. من المستقبل استمدّ قوتي وحماستي، فالمستقبل يحيى الحاضر، ويغرف من الماضي ما يحتاج اليه. المستقبل يحسم حياة الحاضر وتراث الماضي في آن معاً.
والتراث الحيّ هو تواصل الزمن الذي يقرّره المستقبل المترامي بأبعاده، وكل ما ليس يؤتي نفعه مستقبلياً، مما عفى عليه الدهر، ليس من التراث في شيء. فالتطلّع الى الماضي وحده نوع من الموت، والعيش في الاوان الحاضر وحده عيش حيواني، لأن الحيوان فقط ليس له بعد ماض ولا بعد مستقبل. أما الانسان، فيعيش أولاً في مستقبله، وثانياً في ماضيه، وثالثاً في حاضره.
من هنا أهمية ما اسمّيه " بالمؤسسة "، التي يتجسّد فيها التراث، ويتطلع الى المستقبل. وأعني " بالمؤسسة " نمطاً مشتركاً مستقراً من العيش والحكم والتعبير، يرمي الى هدف معين، ويتراضى عليه الناس، وينظّمون وجودهم على أساسه. الحاسم بشأن " المؤسسة " هو المشاركة، والاستقرار، والتراضي، والهدف الواحد، والتنظيم على أساس أصول وقواعد.
" المؤسسة " اذن تجسيد التراث. واذا قلت تراثاً، دون أن تقول " مؤسسة "، فأنت لا تقول شيئاً معّيناً واضحاً. ولا بدّ لك، ان كنت تبحث عن تراثك، ان تبحث أولاً عن مؤسّساته. فلا تراث على الاطلاق في الخيال أو التصّور الفردي، بل أنه يتجسد في المؤسسة الجماعية.-لذلك، فان بحثنا عن التراث اللبناني، هو بحث عن المؤسسات اللبنانية التي ينصب فيها التراث ويكون. حيث لا مؤسسة، فلا تراث، وحيث تراث، فثمّة حتماً مؤسسة.
ينتج عن هذا أن القول باحياء التراث هو القول بتعزيز المؤسسات التراثية، أن بخلق مؤسسات تراثية جديدة، لأنّ كلّ ما هو تراث يكمن في " المؤسسة " وينبع منها.- تأكيدي اذن على أمرين أساسيين :
المستقبل الذي يحسم كل شيء بشأن التراث.
والمؤسسة التي يتجسد فيها التراث، والتي لا مستقبل، أي لا وجود، للتراث الاّ في اطارها.
التراث اللبناني يتجسّد في سبع مؤسسات.
اولاها القرية اللبنانية التي تجسّد تراثاً حياً عظيماً، فهي تحتل مكانها في واصل الزمن، والتطلع الهنيء الواثق الى المستقبل. ويتألف تراث القرية من :
التعلّق الحميم بالأرض، والتراب، والشجرة، والداجن الأليف من الحيوان والأشياء، ثم
التكيّف الكياني على الطبيعة، بفصولها الأربعة، وبما يأتي به كلّ فصل من نفحات خاصة يطبع بها الوجود، وما هي عليه دورة الحياة الطبيعية هذه من بساطة وبراءة.
كذلك يتألّف تراث القرية من التقاليد العائلية الراسخة، والعادات والمآكل والمشارب المتوارثة، والصداقة الخالصة المتواصلة، واللقاءات الحلوة في المناسبات المختلفة، من اجتماعية ودينية وموسمية، والسهرات والغدوات وما تعنيه من سمر وحديث، وصفو معشر، ورفقة ووصال، والأغاني، والرقص، والشعر، والحبّ في القرية، وما ينقله الآباء والأمهات والجدود والجدّات والأعمام والعمّات والأخوال والخالات الى الأبناء والحفداء، مما انتهى اليهم عن آبائهم وأجدادهم، من أشياء الحلال والحرام، ودوافع الحمد وشواهد العار. وكذلك الحكم والأمثال المتداولة النابعة من معين حياتي كثيف سحيق، وهي تنظم الحياة وتنير سبيلها باطمئنان.
القرية تعني الخلق الصامد السليم.- القرية تعني الوجود المرح الطلق المنيع.-القرية تعني الطمأنينة في الكيان.-القرية تعني الركون الى قواعد ثابتة مجرّبة في الحياة.-القرية تعني فرح الحياة العميق.
القرية اللبنانية هي اذن مجتمع تراثي عريق أصيل، في جذوره وتقاليده، وعاداته، مجتمع ثبات ورسوخ وصمود، مجتمع أخلاق، وحرية، وألفة ومحبة، وطلاقة، وتطلع، واحترام.
القرية تعني الخلق الصامد السليم.- القرية تعني الوجود المرح الطلق المنيع.-القرية تعني الطمأنينة في الكيان.-القرية تعني الركون الى قواعد ثابتة مجرّبة في الحياة.-القرية تعني فرح الحياة العميق.
القرية اللبنانية هي اذن مجتمع تراثي عريق أصيل، في جذوره وتقاليده، وعاداته، مجتمع ثبات ورسوخ وصمود، مجتمع أخلاق، وحرية، وألفة ومحبة، وطلاقة، وتطلع، واحترام.
-أتريدون احياء التراث ؟ اذن عزّزوا القرية اللبنانية، ووطّدوا أركان العيش فيها، عندئذ نهديها الى المستقبل، مؤسسة تراث أصيل.
2- مؤسسة التراث الثانية هي الوساطة، أو أدب المعاملة. وهنا أيضاً نجد أنفسنا حيال تقليد عريق، يرجع الى ألوف السنين. فالتجارة وساطة بين المنتج والمستهلك، أياً كان الانتاج المادي الذي تتوسط بينهما لتصريفه. والتعاطي الثقافي والحضاري وساطة بين الآخذ والمعطي. وكما ان اللبناني توسّط منذ القدم، في نقل البضائع التجارية بين الشعوب، كذلك توسّط في نقل الفكر ونتاج العقل، والنظر في الأشياء والكائنات والماورائيات. وليست بيروت اليوم ذلك المركز الدولي لتبادل السلع التجارية وحسب، بل انها مركز التبادل والمعاملة في ميادين الفكر والروح، وهي النافذة التي يطلّ منه الشرق على الغرب، والغرب على الشرق. ثم ان حركة النقل والترجمة اللبنانية الرائعة من العربية واليها من لغات اوربة، هي أيضاً من ضروب الوساطة. فاللبناني عندما يكتب أو حتى عندما يتكلم، يقع فعل ترجمة في ذهنه من لغة الى أخرى، سواء أوعى ذلك أم لم يعه. أما الكيان اللبناني، فهو كيان وسيط " بين " الكيانات. انه قضاؤه، وقدره، ومصيره. وهذه " البينية " الكيانية أصبحت تراثاً يتجسّد في مؤسسات، مادية تجارية، أو فكرية ثقافية، أو حضارية روحية.
البيوت التجارية الذائعة الصيت ظاهرة وساطة، كذلك المصارف التي تعمل باقدام وبعد نظر في اطار مواثيق الشرف. حتى العقلية اللبنانية هي عقلية " بينية " وسيطة متوسّطة، أكثر انسانيةً وأعمق حضارةً من العقلية البدوية أو العقلية الزراعية، أو حتى العقلية الصناعية، لأن هذه العقليات تتفاعل مع الطبيعة من حيوان ونبات وجماد، أما كمالات العقلية " البينية " فهي في النهاية كمالات انسانية، دبلوماسية، تقوم على أدب المعاملة. فالخلق الوساطي يهدف الى اكتساب الثقة عند الآخرين، والخلوص الى اتفاق يرضى به الفريقان، وذلك عن طريق المفاوضة الكّيسة والاقناع المجرد. واذا كانت الدبلوماسية هي، كما يحدّدها علماؤها، " فن المفاوضة " ( ) ، فيمكن القول ان الفينيقيين الأوائل هم الذين أسّسوا الدبلوماسية في التاريخ، وهي مأثرة لا تقلّ أهمية عن اختراعهم للأبجدية. واعتقد أن حفداءهم اليوم هم كذلك امراء كياسة ومعاملة ودبلوماسية، ان بالمعنى الضيق للكلمة، أو بالمعنى الأوسع.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن أرهفوا أدب الوساطة والمعاملة، وطهّروه، وارفعوه فوق كل شبهة، عندئذ نورثه الى الأجيال القادمة، مؤسسة تراث عزيز.
3 - مؤسسة التراث الثالثة هي اللغة. واللغة كنز حيّ باق تكدّست فيه تجارب الأجيال والقرون. أما اللبنانيون فقد أخذوا اللغة العربية بعد السريانية واليونانية، وقبلها الآرامية، وغيرها مما يتصدر فناء العصور القديمة، وانكبوا على احياء تراثها، فاذا " بالضاد " تكتسب ليونة شطآنهم، وترتدي حلة هذا الجبل الأخضر، فتزداد روعة وتألقاً. لن أذكر ما اشتقّه اللبنانيون في عصور النهضة المتأخرة وقبلها، من ألفاظ، وما اغنوا به اللغة العربية من تعابير، وما استكشفوا من بحارها الواسعة وابعادها الغنية المشرقة، وما حقّقوا من معاجمها، ودقّقوا من فصولها الخالدة نثراً وشعراً. لن اعدّد ما شرحوه من دواوين، وما نشروه من آثار العرب والمسلمين، وما اختزنته مكتبات أديارهم ومناسكهم من لآليء الفقه والشريعة، وحماسات الجاهلية، وصدر الاسلام، ومعلّقات، ونقائض، ورسائل ومقامات، وما عكفوا عليه من معاني الحديث النبوي والسيرة، وأخبار العرب وأيامها، وما ألفوه في المعاني، والبيان، والعروض، والأدب، والأنساب، والتاريخ. ان الكلام ليعجز عن وصف هذا العطاء خلال ما يقرب من ثمانمائة عام، وعن تحديد ما عربه اللبنانيون من روائع الفكر الأوربي، وما قدّموه للعالم من تراث هذا المشرق العربي، بالصورة البهية والحلة القشيبة، وما أحيوه من معاهد العلم، وصروح المعرفة، وصحائف الحرية والنور، في مصر والشام والعراق، وما أدخلوه على فنون الطباعة والتنضيد، وما استهلكوا من جهد في تقويم الهنات اللغوية، ومحو الرطانة التي عصفت باللغة خلال أزمنة الانحطاط. كل ذلك يصعب وصفه وتعداده، وتسمية روّاده من البستانيين الى اليازجيين، الى غيرهم من جهابذة القلم وأساتذة البيان، وأكتفي الآن في هذه العجالة بتقرير واقع، وهو ان اللغة العربية مؤسسة لبنانية يتجسد فيها التراث، وعلينا أن نحب هذه المؤسسة ونعمل على حفظها وصيانتها بكل ما نملك من وسائل.
ان ما كتبناه نثراً ونظماً وشعراً باللغة العربية قلما يجاريه، في حجمه وجودته، أي نتاج آخر في العالم العربي.- وان ما أكدناه بالبحث والدليل الاختباري من شمول هذه اللغة، واتساعها الفائق، وقدرتها على استيعاب العصر، وأي عصر آخر.
لقد جعلنا من اللغة العربية، بما فيها الاسلام، مؤسسة تراثية لبنانية. ولا عبرة بصغار بعض النفوس وتفاهة بعض العقول التي تظن أن المشكلة هي في اللغة، والمشكلة انما تكمن في ذلك الصغار وتلك التفاهة. فاللغة أكبر وأشمل وأعمق من الظنون والأباطيل والانفعالات.
اللغة تعكس تجربة الشعوب التي حملتها وحضنتها. وهي اليوم تعكس تجربة الشعب اللبناني، من روائع الفصحى الى روائع العامية، في ما تعبر به أمثالها – على ما يقول أنيس فريحة – من صور التمزّق الذي حلّ بالنفس اللبنانية عبر القرون، ومن صور الطموح الذي يدفع بالنفس اللبنانية الى أبعد الآفاق.
النفس اللبنانية المتمزقة الطامحة التي امتصّت أرفع التراثات، هي التي تكيّف اللغة وتحملها الخلق المجيد والابداع المترفع السامي، وهي في طموحها الى الأرفع والأمثل، تفتش عن كمال الاتصال بالحضارة ومواكبها الأصيلة والمستجدة. ولذلك فان النفس اللبنانية تسعى الى اعتناق لغات أخرى بالاضافة الى العربية تنهل من معينها الروحي والكياني الحي.
واستدرك هنا فأقول ان لبنان يتعقم أن هو انعزل على صعيد اللغة. أما اذا وثق وثوقاً تاماً من لغته العربية، وعانق أسمى وأرفع ما في الوجود الانساني من قيم، باتقانه لغات الحضارة الحية، وأعني بالدرجة الأولى، الفرنسية، والانكليزية، والألمانية، والروسية، فان آفاق الخلق التراثي التي تنفتح أمامه عندئذ لا حدود لها، وقد لا تنفتح لسواه.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، حمّلوا اللغة العربية، التي بامكانها أن تحمل كل شيء، أعمق القيم والمعاني في الوجود، وصبّوا فيها قيماً ومعاني لم توجد بعد، عندئذ نقدمها الى المستقبل، في لبنان وفي العالم العربي كله، مؤسسة تراث حضاري كريم.
4- مؤسسة التراث الرابعة هي الشخصية المذهبية السمحاء. فمع أن القرية اللبنانية تتميّز عموماً بطابع مستقلّ عن المذاهب الدينية، ومع ان الوساطة اللبنانية تتبع أصولاً وقواعد وتجسد تراثاً مستقلاً تماماً عن دعاتها وعناصرها، سواء أكانوا مسلمين أم دروزاً أم مسيحيّين، ومع أن اللغة العربية هي مؤسسة تراثية مستقلة في حدّ ذاتها، مع كل ذلك أقول، ان كلّ طائفة، سواء في القرية أو في المدينة، تحافظ على شخصيتها وتراثها الخاص، وتغار عليها كل الغيرة، في الطقوس والفرائض؛ وفي الأحوال الشخصية، والحياة العائلية، والشؤون التربوية، والعلائق الاجتماعية، في الأسماء والأزياء، أسماء الأفراد والعائلات، وأزياء رجال الدين، وحتى في الكتب المدرسية، وأساليب التعليم، وحياة المجتمع. ففي هذه جميعاً تتميّز البيئات الطائفية بعضها عن بعض، بتقاليد وعادات ونزعات ذاتية مستقلة.
البيئة السنية تتميّز الى حدّ ما عن البيئة الشيعية، وكلاهما تتميزان عن البيئة الدرزية، والبيئات الثلاث تتميّز عن البيئات المسيحية، سواء أكانت مارونية أو ارثوذكسية، أو ما عدا هاتين من طوائف شرقية أو غربية. فالواضح في الواقع اللبناني أن كل طائفة تتمسك بشخصيتها، وتحتفظ بقيمها الخاصة، وتحاذر أن تطغى عليها أي قيم أخرى. الشخصية المذهبية اذن هي مؤسسة لبنانية يتجسّد فيها كلّ من الطوائف بخصائصه المستقلة، ولذلك يتعيّن علينا، لدى البحث في التراث اللبناني، على أنه شيء حقيقي باق وحيّ، ان نشدد ونؤكد على ما تختصّ به كل طائفة لبنانية من تقاليد وقيم غنية رائعة ومميزة، وان نشدّد ونؤكد في الوقت نفسه على النظام المستقّر في تعايش هذه الطوائف. فاذا كانت الشصخية المذهبية في لبنان شخصية مستقلة، فان صفتها الأساسية هي في كونها شخصية سمحاء تقوم على التعايش، والتعاون، والتسامح الخلاّق في اطار الاحترام المتبادل.-ان لبنان بلد مؤلف من طوائف متعددة، وهذه ا لمجتمعات المذهبية ذات شخصيات مستقلة تحرص عليها كل الحرص.-ان لبنان – كما يحدده جواد بولس – هو نظام فدرالي طائفي، أو اتحاد طائفي ( federation des communautes) . وهذا النظام الاتحادي المتسامح، المنسجم، المتعايش بسلام، الناقض للحقد والتعصب والكراهية والعنصرية الدينية، هو أيضاً جزء لا يتجزأ من التراث اللبناني، يجب المحافظة عليه، والتخطيط المستقبلي لانماء فضائله.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، قوّوا روح الألفة والاحترام المتبادل بين الطوائف في لبنان، بالشعور الذاتي، وبالفكر والقول والفعل، وفي كل مناسبة، عندئذ نترك لأولادنا وأحفادنا مؤسسة تراث اجتماعي مستقر ثابت.
5- مؤسسة التراث الخامسة هي الدولة. وهنا لابدّ من التأكيد أن دستورنا هو أقدم دستور حيّ في الشرق الأدنى، لم تعصف به نوازع التبديل والنقض. ومع أن نظامنا الديموقراطي البرلماني مقتبس من نظام الجمهورية الفرنسية الثالثة، الاّ ّ أن حياتنا السياسية عريقة في الديموقراطية. فالشعب في لبنان هو في نهاية النهايات مصدر السلطة بالفعل. وعند كل قرار سياسي يتعلّق باختيار الشعب لممثليه، سواء في الانتخابات البلدية أو في الانتخابات النيابية أو حتى الانتخابات الرئاسية، يختار الناخب من يشاء بين عدة مرشحين. أما المنافسة السياسية فهي منافسة حرّة وحادّة. وكل هذا يقع بالطبع في اطار التوازن الطائفي الذي يؤلّف هو أيضاً جانباً من التراث. وأما القضاء فهو عريق مستقل منزه، وافر التقاليد، غني المنابع من شرائع العالم المتمدّن. وفي كلّ ظاهرة من حياتنا السياسية والقضائية في لبنان نجد الأثر الواضح للسابقة، والتقليد، والعرف؛ ونحتكم أخيراً الى ما هو في صميم عاداتنا الأصيلة.-ولعلّ الخاصة المميزة للنظام اللبناني بالدرجة الأولى، هي ان الدولة ليست " مؤسسة المؤسسات "، كما هي الحال في كثير من البلدان، بل أن الدولة مؤسسة بين المؤسسات.
وقد يكون في عداد مؤسّساتنا ما هو أقوى وأعظم وأعرق من مؤسسة الحكم. فالنظم، والعهود، والحكومات، تمرّ على مسرح الحياة الوطنية، ثم تتوارى، أما القرية، والشخصية المذهبية، والوساطة، وغيرها من مؤسّسات التراث، فقائمة لا تبرح ولا تزول، وكثيراً ما برهنت هذه المؤسسات أنها أقوى من الدولة، بل أن الدولة سرعان ما تتعرض لخطر الانهيار ان هي دخلت معها في صراع التحدي.
ثم ان هذه المؤسّسات ليست أعضاء في جسم الدولة، بل أن الدولة نفسها عضو يشارك المؤسّسات التراثية الأخرى في الجسم الحضاري اللبناني المتناسق الرائع العجيب. ومن هنا أنّ ردود الفعل التي تريد أن تحمل الدولة مسؤولية كلّ شيء ليست من لبنان وتراثه في شيء. والذين لا يرون في لبنان الاّ مؤسّسة واحدة هي الدولة ينتقدون أو يمتدحون، يعيشون بعقلية غير لبنانية، هي أقرب الى النزعة البيروقراطية البوليسية الكلية، منها الى النزعة الديموقراطية الأصيلة التي شاءت أن تكون الدولة، وهي مؤسّسة خدمة الشعب والتراث، لا أكثر ولا أقل، وأن تكون بنظمها وقوانينها وفروعها المتعددة مؤسسة يتجسد فيها تراثنا السياسي الحيّ الديموقراطي الحرّ.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، لتحقّق الدولة معاني وجودها، في توطيد الأمن والحرّية، في رفع الظلم، في اشاعة العدالة، في تعزيز الخير العام فوق النفع الخاص، ولنساعدها جميعاً كمواطنين أحرار، بتوقّعاتنا المنضبطة، ان تعطي ما تستطيع اعطاءه في نطاقها المحدود، عندئذ نسلّم للمستقبل مؤسسة تراث انساني أصيل.
6- المؤسسة اللبنانية السادسة في عداد مؤسسات التراث، هي المدرسة : المدرسة الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، والمدرسة الجامعية العليا. اني لأسأل عن منشأ التراث فأراه في مدارس لبنان الأولى، تحت السنديانة، في جوار الكنائس والأديار، أو في حلقات المساجد والكتاتيب، حتى تجسّد بعد ذلك في المدارس الخاصة الى يومنا، من دور الحضانة والروضة الى عشرات الثانويات والكلّيات التي نفاخر بها تقدّماً وتنظيماً، وبعضها نشأ منذ قرون. وما برح ينمو ويزدهر ويتحّول الى وسط فكري وثقافي وتربوي، نموذجي في الشرق العربي بأسره.
أما تراثنا الفكري البعيد الأثر والانطلاق، فهو يتجسد في الجامعات. وهنا لا بدّ من الاقرار بفضل المؤسّسات العلمية الأجنبية على تراثنا المدرسي، وكل تهّرب من الاقرار بهذا الفضل هو عقوق ليس من اخلاقنا اللبنانية في شيء. فان المدارس والجامعات ذات المنشأ الوطني أو الأجنبي في لبنان أسهمت معاً في بناء تراث فكري عظيم يدخل في كيان التراث اللبناني بوجه عام. ولا أغالي اذا قلت ان لبنان سيواجه في السنوات العشر القادمة مشكلة التنسيق بين الجامعات القائمة على أرضه، والربط والتطوير في مناهجها، والتقريب فيما بينها على أسس موضوعية بعيدة عن المكابرة والتحزّب والارتجال. وعندها سيكون القرار المتعلق باللغات الأجنبية وانفتاحنا على الثقافات العالمية الحية قراراً حاسماً. فقد سبق، وأشرت، في الحديث على مؤسسة اللغة، الى أن أي انتقاص من الانفتاح اللبناني على التراثات الانسانية الكبرى بلغتها الحية، هو تنازل من جانب لبنان عن مركزه الفذّ، ودعوته الخاصة في الشرق الأدنى، وأضيف هنا أن هذا التنازل هو بمثابة كارثة ليس من المعقول أن يقدم لبنان على انزالها بنفسه، واضيف كذلك ان كل شوفينية في أمور الفكر والروح ليست من تراث لبنان في شيء على الاطلاق، فان لبنان واحد مع هوميروس، وأفلاطون، والكتاب، والاكويني، ودانته، وشكسبير، وغوته، وكانت، ودوستويفسكي، كما انه واحد مع القرآن، وعلي بن أبي طالب، وابن سينا، وابن رشد، والمتنبي، والجاحظ، وابي العلاء.
تراثنا الفكري الجامعي الذي يتعين ان نعمقه أضعافاً مضاعفة عما كان حتى الآن، يجب أن يرمي الى اكتناه الحقيقة التامة، في ميادين الوجود كافة، بالحرية المطلقة والانفتاح التام، بالمناقشة والحوار المسؤول، وبالمقاييس والاحكام العقلية المأثورة والمعترف بها في التاريخ، كل ذلك بقصد الوصول الى خلق عقلي عالمي جديد.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، بثّوا روح الجدّ والمسؤولية والرسالة في المدرسة والجامعة، في صفوف الطلاّب والمعلمين، واربطوا مؤسسة التربية والعقل بأرفع مراكز الخلق والابداع في العالم، في العلم والفكر والفنّ، عندئذ نخلق للأجيال الطالعة مؤسسة تراث مبدع عظيم.
7- المؤسسة اللبنانية السابعة التي تجسد التراث هي الكنيسة. واذا كانت الطوائف اللبنانية جميعاً تتفاعل متعايشة في قلب التراث، في اطار الشخصية المذهبية السمحاء، واذا كان النظام السياسي القائم في لبنان يستند الى هذا التوازن والتعاون الطائفي الذي يؤمن الاستقرار انطلاقاً من الاعتراف بالحقوق السياسية والاجتمتاعية لكل طائفة من الطوائف، فان الكنيسة التي تبدو ذات علاقة بالوجود الطائفي في لبنان، هي بطبيعتها وتراثها مستقلّة تمام الاستقلال عن أيّ شخصية مذهبية، سواء أكانت مسيحية أم غير مسيحية، وسواء أكان ذلك في لبنان أم في أي بلد آخر. فلو زال النظام الطائفي بكامله من لبنان، تبقى مع ذلك الكنيسة مؤسسة تراث حيّ فاعل.
ذلك ان الكنيسة هي " المؤسسة "، بأل التعريف، على الصعيد الانساني، وهي في لبنان المؤسسة التراثية المثلى، نظراً لقدمها وتأصلها واستمرارها، ومسكونية انتمائها. ولو انعمنا النظر في مؤسسات البشر كافة، لرأيناها تنهل من معين الكنيسة وتتأّثر بها حضارياً وتنظيمياً، بدرجات متفاوتة. الكنيسة مستقلّة تماماً عن أيّ نظام اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، وتراثها قائم في حدّ ذاته، بل انه معطى من خارج هذه الأنظمة جميعا.
أما أهمية الكنيسة الأم في التراث اللبناني، فهي انها وجدت في لبنان منذ أن وجدت، ولم تنفصل منذ وجودها، وخلال الألفي سنة من تاريخ وجودها في لبنان، عن مركزيها العالمّيين : القسطنطينية في الشرق، ورومة في الغرب. هذا الاتصال العضوي، الذي لم ينفصم اطلاقاً، بالمركزين الرئيسيين نكاد الاّ نجده في بلد آخر غير لبنان، ليس في الشرق الأدنى وحسب، بل في العالم بأسره.
الكنيسة لا تبتغي شيئاً من الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة، بل أن كل ما تبتغيه هو أن يسمح لها بالوجود والعمل الحرّ، وهي لا تتحمل مسؤولية أيّ قرار سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، فلديها مسؤولياتها الخاصة، في الحفاظ على الوديعة الغالية التي تسلمتها، وفي تقديم بشراها الى العالم، وفي تعهد بيعتها وصون حريتها. انها تنبه للخطأ، وتنهي عن الظلم، ولكن على المخطئين والظالمين، ومن يقع عليهم فعل الخطأ والظلم، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في الزمان والمكان. فللكنيسة ميدانها الخاص، ومصدر سلطتها هو مصدر آخر مستقل. غايتها انقاذ النفوس من ربقة الشرّ والفساد، واخراج العقول من الظلمة الى النور، أياً كانت الظروف أو الأنظمة التي تعايشها. ان تراث الكنيسة العظيم لا يدانيه أي تراث آخر من صنع البشر، تراث يتصل بألوف الشهداء، والقديسين، والفلاسفة، والمعلمين، والأدباء، والعلماء، والمفكّرين، والفنّانين، وأهل الخير من بناة صروح العلم، ودور التمريض، وملاجيء العجزة والبؤساء والمعذّبين في الأرض، كما يتصل بمواكب لا نهاية لها من المؤمنين بالعدالة، العاملين في اطار المحبة، الساعين الى الخير والصلاح، المنشئين هياكل الايمان والمرسين قواعد السلطان من رجال الدين والدنيا.
ولا يمكنني بعد أن أتصوّر التراث اللبناني بدون الكنيسة، هذه المؤسسة العظمى، في مسكونيتها، وقدمها، ورسوخها، وغناها، وفي كونها أسهمت كبير الاسهام في أن يظّل لبنان مطلاً مشرفاً على أبعد آفاق المعمورة، شرقاً وغرباً.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، صونوا حقّ الكنيسة التام في انماء ذاتها وفقاً لقوانينها وتقاليدها المستقلة، وليشترك بالفعل ابناؤها المؤمنون، بعيداً عن كل سياسة، في استحضار دفق جديد من الروح القدس عليها، عندئذ تقدّم ذاتها في لبنان، كما تقدّم ذاتها في كل مكان، بركة لكل انسان، لأنها مؤسسة تراث زاخر عريق باق الى الأبد.
قررنا، في مطلع هذا البحث، امرين أساسيين :
قررنا أولاً ان ما نسميه تراثنا يجب أن يكون حياً باقياً فينا. لذلك لا يحقّ لنا أن ندعي ارثاً لا نتعهد اليوم بالفعل، حتى ولو نشأ على أرضنا في غياهب الماضي السحيق، فتلك محاباة كاذبة، ومفاخرة في غير موضعها.
وقررنا ثانياً أن التراث الحيّ الباقي لا يكمن في الخيال والتصوّر والادّعاء، بل يتجسد في مؤسسات قائمة تسمى بأسمائها، وقد تبين لنا انها سبع مؤسسات : القرية اللبنانية، الوساطة اللبنانية، الشخصية المذهبية السمحاء، اللغة العربية وتراثها، الدولة، المدرسة، الكنيسة.
والمهّم في هذه جميعاً ليس انها توحي بتأمّلات وأفكار، بل المهّم هو كونها موجودةً بالفعل، حيّة، باقية، مستمرّة. انها تختلف ولا ريب، أصالةً، وتواصلاً، وتأصلاً، وغنى وقوة، ومراتب، وابعاداً، وبتفاوت ما تمثله في الوجود اللبناني، وما تعنيه وما تحتويه، ولكنها هي المؤسسات التراثية الحية الحقيقية التي يتعين انماؤها حاضراً ومستقبلاً.
هنالك مؤسّسات أخرى، كالأحزاب السياسية، والنقابات، والهيئات الاجتماعية، والصحافة، وبعض العائلات اللبنانية، وبعض الجمعيات والتنظيمات الأهلية، وغيرها مما لا مجال الى تعداده، ولكن هذه المؤسّسات لا يمكن أن تقارن عمقاً، واتساعاً، وشمولاً، وبعد أثر، بالمؤسسات التراثية السبع التي ذكرنا. فاذا قلنا " لبنان تراثاً " فنحن نعني هذه المؤسسات السبع بالذات، واذا قلنا باحياء التراث، فعلينا أن نعنى بهذه المؤسسات قبل أيّ شيء آخر.
والآن، ما هو الطابع الذي يطبع هذه المؤسسات التراثية جميعاً ؟ وما هي روحها المتأصّلة فيها ؟ وما هو سرها المكنون ؟انه طابع الحرّية، وروح الاحترام، لأن الحرية المسؤولة تفترض الاحترام.
لبنان التراث هو الحرية والاحترام.
يوم عانى لبنان ما عاناه في الأمم المتحدة لاثبات كرامة الانسان، وحقوقه، وحرّياته الأساسية، في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، بصيغته الفريدة الرائعة، كانت أعماق الوجود اللبناني هي التي تنطق بأفواه ممثليه. ان قصة هذه المعاناة لم تكتب بعد، وهي، في خفاياها وأسرارها الكيانية، لن تكتب أبداً.
يبدأ الاعلان العالمي لحقوق الانسان كما يلي : " أما وان الاعتراف بكرامة الانسان المتأصّلة في كيان أعضاء الأسرة البشرية جميعاً، وبحقوقهم المتساوية، التي لا انتزاع لها عنهم، انما هو أساس الحرية والعدل والسلم في العالم..."
وتقول مادته الأولى : " يولد البشر كلهم أحراراً، متساوين، في الكرامة وفي الحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء."
والحقّ انه لولا هذه الكرامة وهذه الحقوق، ولولا هذه الحريةوهذا الاخاء، ولولا هذا العقل وهذا الضمير، لما كان لبنان، ولا تمكّن أن يتحدى الأزمنة والعصور حياةً وديمومة.
هذا هو الذي قلناه، وأعلنّاه، وسجّلناه أمام العالم بأسره، مراراً، وهذا ما عملنا على تجسيده أخيراً في هذه النصوص. وأؤكّد لكم ان احتفال العالم كلّ عام، في العاشر من كانون الأول، بذكرى الاعلان العالمي لحقوق الانسان هو احتفال بعيد لبنان. العالم بأسره يعرف الصنيع اللبناني، ويشهد له في هذا اليوم، ونحن لم نجعله بعد، مع الأسف، في طليعة أعيادنا الوطنية الرسمية.-أعود الى الحرية والاحترام، فأقول :
الحرية ليست فكرة أو عاطفة أو خيالاً. بل ان الحرية ليست أيّ شيء، ما لم تتجسّد في الأحرار. الحرية هي الانسان الكائن الحرّ. والانسان الحرّ المسؤول هو أعظم وأهمّ مؤسسة في التراث اللبناني.-ففي قمة التراث اللبناني يوجد الانسان الحرّ، ان هو وجد بالفعل.-الحرّ لا يكذب ولا ينافق.-الحرّ يعرف فضيلة الصمت-.الحرّ لا يغلب على أمره غوغائياً، ولا طموحياً، ولا شهوانياً. أما شهوة الحكم والتسلّط فأبعد ما تكون عنه.-الحقد والنكاية، والبغضاء والنميمة، وصغار النفس، والدس والتآمر في الظلام، كل هذه يفهمها الأحرار تماماً حين تمرّ بهم، لكنهم يمّرون بها دون أن تترك فيهم أيّ أثر.-الحرّ يخلق في كل لحظة – يخلق نفسه حرّاً.-الأحرار يقسون على أنفسهم حتى يتفجر الخلق فيهم تفجيراً.-همّهم أن يرتفعوا الى ملأ الاشراف الخلق، وفي فعل الخلق أن يوجدوا.-وهم اذ يرمقون لحظة الخلق بصبر وطول أناة، يخلقون ان هي جاءت، وان هي لم تجيء، يسجدون ويصلّون.-الأحرار يقبلون الصلب، وفي اليوم الثالث يقومون.
الأحرار لا يسألون عن الموت، ولا يهابون الحياة. يرحّبون بالموت، اذا كان فيه الحياة، واذا اقتضت الحياة الحرّة الشريفة موتاً، فانهم يحيونها.-همّهم أن يبقوا هم الأسياد، ليس على الآخرين، بل على كلّ ظلام وخسّة في نفوسهم.
هل يضبطون أفكارهم، هل ينظّمون تخيلاتهم، هل يكبحون جماح عواطفهم، هل يلجمون ألسنتهم، هل يتحملون آلامهم، هل يقبلون أقدارهم، هل ينتقدون أنفسهم – تلك هموم الأحرار.
الماضي لا يكّبلهم الاّ ما يكونون تائبين. والتوبة الصادقة تحرّرهم حتى من الماضي. تحرّرهم لأنها لا تنبع منهم. تحررّهم لأنها من لدن اللّه.-يقتنصون الوجود لأنّ الوجود وجدهم قبل أن يجدوه. وجدهم وترّبع فيهم، واستقّر، واستوى.
الأحرار لا يحلّلون، ويمحّصون، ويرفضون – الأحرار يعجبون ويحّبون.-الأحرار يقرّون بالأفضال، ويعترفون بالمصادر. الأحرار يعلنون الى من هم مدينون.-اذا عنت الحرية ضرورة السقوط أصبح الحرّ عبداً لما يسقط اليه.
أما الأحرار فيفسّرون حرّيتهم بأنها الابقاء على امكان السقوط، دون الوقوع بالسقوط بالفعل.-الحرّ يعرف تماماً أن الوجود لا يتوقّف عليه، بل على العكس، يعرف ويقّر أن وجوده هو يتوقف على الوجود الحقيقي الموجود.
الأحرار يعيشون في العالم، لكنهم ليسوا من العالم. الحرية قبس متعال آت من فوق.-الأحرار يقرون بما هو فوق، ويعترفون بمن هم متكلون عليه، ولذلك هم أحرار.-الأحرار يعنشون، ويونعون مع الأحرار، دون أن ينسخ بعضهم بعضاً، واذا كان حرّ ما نسخة تامة طبق الأصل عن أي حرّ آخر، فهو عبد.-انها الصداقة، والمعاشرة، والمشاركة، والمحبة، التي تعزّز الحرية في الأحرار.-يفتش الأحرار عن الأحرار في كل زاوية من زوايا الكون، في الزمان وفي المكان، وحين يجد بعضهم بعضاً، أيّاً كانت فوارق اللغة، والعصر، والتراث، والجنس، والدين، فكأنّهم وجدوا اللّه في وجوههم.
الوجود كله يحصر في النهاية في الانسان الشخص الكائن الحرّ. وكل تراث لا ينهض على أحرار، ولا يخلق أحراراً، هو تراث عقيم. الانسان الشخص الحرّ الكائن هو مؤسسة التراث الأولى، وكل مؤسسة أخرى انما تنحدر منه، وتؤول اليه. هو أمل الوجود، وهو قبلة المستقبل. هو الذي يبّرر كلّ ثقافة وكلّ تراث. وما لم تتمكن مؤسساتنا من خلق الانسان الشخص المسؤول، فباطل التبجح بالحرية، وعبث القول بالتراث.
2- مؤسسة التراث الثانية هي الوساطة، أو أدب المعاملة. وهنا أيضاً نجد أنفسنا حيال تقليد عريق، يرجع الى ألوف السنين. فالتجارة وساطة بين المنتج والمستهلك، أياً كان الانتاج المادي الذي تتوسط بينهما لتصريفه. والتعاطي الثقافي والحضاري وساطة بين الآخذ والمعطي. وكما ان اللبناني توسّط منذ القدم، في نقل البضائع التجارية بين الشعوب، كذلك توسّط في نقل الفكر ونتاج العقل، والنظر في الأشياء والكائنات والماورائيات. وليست بيروت اليوم ذلك المركز الدولي لتبادل السلع التجارية وحسب، بل انها مركز التبادل والمعاملة في ميادين الفكر والروح، وهي النافذة التي يطلّ منه الشرق على الغرب، والغرب على الشرق. ثم ان حركة النقل والترجمة اللبنانية الرائعة من العربية واليها من لغات اوربة، هي أيضاً من ضروب الوساطة. فاللبناني عندما يكتب أو حتى عندما يتكلم، يقع فعل ترجمة في ذهنه من لغة الى أخرى، سواء أوعى ذلك أم لم يعه. أما الكيان اللبناني، فهو كيان وسيط " بين " الكيانات. انه قضاؤه، وقدره، ومصيره. وهذه " البينية " الكيانية أصبحت تراثاً يتجسّد في مؤسسات، مادية تجارية، أو فكرية ثقافية، أو حضارية روحية.
البيوت التجارية الذائعة الصيت ظاهرة وساطة، كذلك المصارف التي تعمل باقدام وبعد نظر في اطار مواثيق الشرف. حتى العقلية اللبنانية هي عقلية " بينية " وسيطة متوسّطة، أكثر انسانيةً وأعمق حضارةً من العقلية البدوية أو العقلية الزراعية، أو حتى العقلية الصناعية، لأن هذه العقليات تتفاعل مع الطبيعة من حيوان ونبات وجماد، أما كمالات العقلية " البينية " فهي في النهاية كمالات انسانية، دبلوماسية، تقوم على أدب المعاملة. فالخلق الوساطي يهدف الى اكتساب الثقة عند الآخرين، والخلوص الى اتفاق يرضى به الفريقان، وذلك عن طريق المفاوضة الكّيسة والاقناع المجرد. واذا كانت الدبلوماسية هي، كما يحدّدها علماؤها، " فن المفاوضة " ( ) ، فيمكن القول ان الفينيقيين الأوائل هم الذين أسّسوا الدبلوماسية في التاريخ، وهي مأثرة لا تقلّ أهمية عن اختراعهم للأبجدية. واعتقد أن حفداءهم اليوم هم كذلك امراء كياسة ومعاملة ودبلوماسية، ان بالمعنى الضيق للكلمة، أو بالمعنى الأوسع.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن أرهفوا أدب الوساطة والمعاملة، وطهّروه، وارفعوه فوق كل شبهة، عندئذ نورثه الى الأجيال القادمة، مؤسسة تراث عزيز.
3 - مؤسسة التراث الثالثة هي اللغة. واللغة كنز حيّ باق تكدّست فيه تجارب الأجيال والقرون. أما اللبنانيون فقد أخذوا اللغة العربية بعد السريانية واليونانية، وقبلها الآرامية، وغيرها مما يتصدر فناء العصور القديمة، وانكبوا على احياء تراثها، فاذا " بالضاد " تكتسب ليونة شطآنهم، وترتدي حلة هذا الجبل الأخضر، فتزداد روعة وتألقاً. لن أذكر ما اشتقّه اللبنانيون في عصور النهضة المتأخرة وقبلها، من ألفاظ، وما اغنوا به اللغة العربية من تعابير، وما استكشفوا من بحارها الواسعة وابعادها الغنية المشرقة، وما حقّقوا من معاجمها، ودقّقوا من فصولها الخالدة نثراً وشعراً. لن اعدّد ما شرحوه من دواوين، وما نشروه من آثار العرب والمسلمين، وما اختزنته مكتبات أديارهم ومناسكهم من لآليء الفقه والشريعة، وحماسات الجاهلية، وصدر الاسلام، ومعلّقات، ونقائض، ورسائل ومقامات، وما عكفوا عليه من معاني الحديث النبوي والسيرة، وأخبار العرب وأيامها، وما ألفوه في المعاني، والبيان، والعروض، والأدب، والأنساب، والتاريخ. ان الكلام ليعجز عن وصف هذا العطاء خلال ما يقرب من ثمانمائة عام، وعن تحديد ما عربه اللبنانيون من روائع الفكر الأوربي، وما قدّموه للعالم من تراث هذا المشرق العربي، بالصورة البهية والحلة القشيبة، وما أحيوه من معاهد العلم، وصروح المعرفة، وصحائف الحرية والنور، في مصر والشام والعراق، وما أدخلوه على فنون الطباعة والتنضيد، وما استهلكوا من جهد في تقويم الهنات اللغوية، ومحو الرطانة التي عصفت باللغة خلال أزمنة الانحطاط. كل ذلك يصعب وصفه وتعداده، وتسمية روّاده من البستانيين الى اليازجيين، الى غيرهم من جهابذة القلم وأساتذة البيان، وأكتفي الآن في هذه العجالة بتقرير واقع، وهو ان اللغة العربية مؤسسة لبنانية يتجسد فيها التراث، وعلينا أن نحب هذه المؤسسة ونعمل على حفظها وصيانتها بكل ما نملك من وسائل.
ان ما كتبناه نثراً ونظماً وشعراً باللغة العربية قلما يجاريه، في حجمه وجودته، أي نتاج آخر في العالم العربي.- وان ما أكدناه بالبحث والدليل الاختباري من شمول هذه اللغة، واتساعها الفائق، وقدرتها على استيعاب العصر، وأي عصر آخر.
لقد جعلنا من اللغة العربية، بما فيها الاسلام، مؤسسة تراثية لبنانية. ولا عبرة بصغار بعض النفوس وتفاهة بعض العقول التي تظن أن المشكلة هي في اللغة، والمشكلة انما تكمن في ذلك الصغار وتلك التفاهة. فاللغة أكبر وأشمل وأعمق من الظنون والأباطيل والانفعالات.
اللغة تعكس تجربة الشعوب التي حملتها وحضنتها. وهي اليوم تعكس تجربة الشعب اللبناني، من روائع الفصحى الى روائع العامية، في ما تعبر به أمثالها – على ما يقول أنيس فريحة – من صور التمزّق الذي حلّ بالنفس اللبنانية عبر القرون، ومن صور الطموح الذي يدفع بالنفس اللبنانية الى أبعد الآفاق.
النفس اللبنانية المتمزقة الطامحة التي امتصّت أرفع التراثات، هي التي تكيّف اللغة وتحملها الخلق المجيد والابداع المترفع السامي، وهي في طموحها الى الأرفع والأمثل، تفتش عن كمال الاتصال بالحضارة ومواكبها الأصيلة والمستجدة. ولذلك فان النفس اللبنانية تسعى الى اعتناق لغات أخرى بالاضافة الى العربية تنهل من معينها الروحي والكياني الحي.
واستدرك هنا فأقول ان لبنان يتعقم أن هو انعزل على صعيد اللغة. أما اذا وثق وثوقاً تاماً من لغته العربية، وعانق أسمى وأرفع ما في الوجود الانساني من قيم، باتقانه لغات الحضارة الحية، وأعني بالدرجة الأولى، الفرنسية، والانكليزية، والألمانية، والروسية، فان آفاق الخلق التراثي التي تنفتح أمامه عندئذ لا حدود لها، وقد لا تنفتح لسواه.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، حمّلوا اللغة العربية، التي بامكانها أن تحمل كل شيء، أعمق القيم والمعاني في الوجود، وصبّوا فيها قيماً ومعاني لم توجد بعد، عندئذ نقدمها الى المستقبل، في لبنان وفي العالم العربي كله، مؤسسة تراث حضاري كريم.
4- مؤسسة التراث الرابعة هي الشخصية المذهبية السمحاء. فمع أن القرية اللبنانية تتميّز عموماً بطابع مستقلّ عن المذاهب الدينية، ومع ان الوساطة اللبنانية تتبع أصولاً وقواعد وتجسد تراثاً مستقلاً تماماً عن دعاتها وعناصرها، سواء أكانوا مسلمين أم دروزاً أم مسيحيّين، ومع أن اللغة العربية هي مؤسسة تراثية مستقلة في حدّ ذاتها، مع كل ذلك أقول، ان كلّ طائفة، سواء في القرية أو في المدينة، تحافظ على شخصيتها وتراثها الخاص، وتغار عليها كل الغيرة، في الطقوس والفرائض؛ وفي الأحوال الشخصية، والحياة العائلية، والشؤون التربوية، والعلائق الاجتماعية، في الأسماء والأزياء، أسماء الأفراد والعائلات، وأزياء رجال الدين، وحتى في الكتب المدرسية، وأساليب التعليم، وحياة المجتمع. ففي هذه جميعاً تتميّز البيئات الطائفية بعضها عن بعض، بتقاليد وعادات ونزعات ذاتية مستقلة.
البيئة السنية تتميّز الى حدّ ما عن البيئة الشيعية، وكلاهما تتميزان عن البيئة الدرزية، والبيئات الثلاث تتميّز عن البيئات المسيحية، سواء أكانت مارونية أو ارثوذكسية، أو ما عدا هاتين من طوائف شرقية أو غربية. فالواضح في الواقع اللبناني أن كل طائفة تتمسك بشخصيتها، وتحتفظ بقيمها الخاصة، وتحاذر أن تطغى عليها أي قيم أخرى. الشخصية المذهبية اذن هي مؤسسة لبنانية يتجسّد فيها كلّ من الطوائف بخصائصه المستقلة، ولذلك يتعيّن علينا، لدى البحث في التراث اللبناني، على أنه شيء حقيقي باق وحيّ، ان نشدد ونؤكد على ما تختصّ به كل طائفة لبنانية من تقاليد وقيم غنية رائعة ومميزة، وان نشدّد ونؤكد في الوقت نفسه على النظام المستقّر في تعايش هذه الطوائف. فاذا كانت الشصخية المذهبية في لبنان شخصية مستقلة، فان صفتها الأساسية هي في كونها شخصية سمحاء تقوم على التعايش، والتعاون، والتسامح الخلاّق في اطار الاحترام المتبادل.-ان لبنان بلد مؤلف من طوائف متعددة، وهذه ا لمجتمعات المذهبية ذات شخصيات مستقلة تحرص عليها كل الحرص.-ان لبنان – كما يحدده جواد بولس – هو نظام فدرالي طائفي، أو اتحاد طائفي ( federation des communautes) . وهذا النظام الاتحادي المتسامح، المنسجم، المتعايش بسلام، الناقض للحقد والتعصب والكراهية والعنصرية الدينية، هو أيضاً جزء لا يتجزأ من التراث اللبناني، يجب المحافظة عليه، والتخطيط المستقبلي لانماء فضائله.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، قوّوا روح الألفة والاحترام المتبادل بين الطوائف في لبنان، بالشعور الذاتي، وبالفكر والقول والفعل، وفي كل مناسبة، عندئذ نترك لأولادنا وأحفادنا مؤسسة تراث اجتماعي مستقر ثابت.
5- مؤسسة التراث الخامسة هي الدولة. وهنا لابدّ من التأكيد أن دستورنا هو أقدم دستور حيّ في الشرق الأدنى، لم تعصف به نوازع التبديل والنقض. ومع أن نظامنا الديموقراطي البرلماني مقتبس من نظام الجمهورية الفرنسية الثالثة، الاّ ّ أن حياتنا السياسية عريقة في الديموقراطية. فالشعب في لبنان هو في نهاية النهايات مصدر السلطة بالفعل. وعند كل قرار سياسي يتعلّق باختيار الشعب لممثليه، سواء في الانتخابات البلدية أو في الانتخابات النيابية أو حتى الانتخابات الرئاسية، يختار الناخب من يشاء بين عدة مرشحين. أما المنافسة السياسية فهي منافسة حرّة وحادّة. وكل هذا يقع بالطبع في اطار التوازن الطائفي الذي يؤلّف هو أيضاً جانباً من التراث. وأما القضاء فهو عريق مستقل منزه، وافر التقاليد، غني المنابع من شرائع العالم المتمدّن. وفي كلّ ظاهرة من حياتنا السياسية والقضائية في لبنان نجد الأثر الواضح للسابقة، والتقليد، والعرف؛ ونحتكم أخيراً الى ما هو في صميم عاداتنا الأصيلة.-ولعلّ الخاصة المميزة للنظام اللبناني بالدرجة الأولى، هي ان الدولة ليست " مؤسسة المؤسسات "، كما هي الحال في كثير من البلدان، بل أن الدولة مؤسسة بين المؤسسات.
وقد يكون في عداد مؤسّساتنا ما هو أقوى وأعظم وأعرق من مؤسسة الحكم. فالنظم، والعهود، والحكومات، تمرّ على مسرح الحياة الوطنية، ثم تتوارى، أما القرية، والشخصية المذهبية، والوساطة، وغيرها من مؤسّسات التراث، فقائمة لا تبرح ولا تزول، وكثيراً ما برهنت هذه المؤسسات أنها أقوى من الدولة، بل أن الدولة سرعان ما تتعرض لخطر الانهيار ان هي دخلت معها في صراع التحدي.
ثم ان هذه المؤسّسات ليست أعضاء في جسم الدولة، بل أن الدولة نفسها عضو يشارك المؤسّسات التراثية الأخرى في الجسم الحضاري اللبناني المتناسق الرائع العجيب. ومن هنا أنّ ردود الفعل التي تريد أن تحمل الدولة مسؤولية كلّ شيء ليست من لبنان وتراثه في شيء. والذين لا يرون في لبنان الاّ مؤسّسة واحدة هي الدولة ينتقدون أو يمتدحون، يعيشون بعقلية غير لبنانية، هي أقرب الى النزعة البيروقراطية البوليسية الكلية، منها الى النزعة الديموقراطية الأصيلة التي شاءت أن تكون الدولة، وهي مؤسّسة خدمة الشعب والتراث، لا أكثر ولا أقل، وأن تكون بنظمها وقوانينها وفروعها المتعددة مؤسسة يتجسد فيها تراثنا السياسي الحيّ الديموقراطي الحرّ.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، لتحقّق الدولة معاني وجودها، في توطيد الأمن والحرّية، في رفع الظلم، في اشاعة العدالة، في تعزيز الخير العام فوق النفع الخاص، ولنساعدها جميعاً كمواطنين أحرار، بتوقّعاتنا المنضبطة، ان تعطي ما تستطيع اعطاءه في نطاقها المحدود، عندئذ نسلّم للمستقبل مؤسسة تراث انساني أصيل.
6- المؤسسة اللبنانية السادسة في عداد مؤسسات التراث، هي المدرسة : المدرسة الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية، والمدرسة الجامعية العليا. اني لأسأل عن منشأ التراث فأراه في مدارس لبنان الأولى، تحت السنديانة، في جوار الكنائس والأديار، أو في حلقات المساجد والكتاتيب، حتى تجسّد بعد ذلك في المدارس الخاصة الى يومنا، من دور الحضانة والروضة الى عشرات الثانويات والكلّيات التي نفاخر بها تقدّماً وتنظيماً، وبعضها نشأ منذ قرون. وما برح ينمو ويزدهر ويتحّول الى وسط فكري وثقافي وتربوي، نموذجي في الشرق العربي بأسره.
أما تراثنا الفكري البعيد الأثر والانطلاق، فهو يتجسد في الجامعات. وهنا لا بدّ من الاقرار بفضل المؤسّسات العلمية الأجنبية على تراثنا المدرسي، وكل تهّرب من الاقرار بهذا الفضل هو عقوق ليس من اخلاقنا اللبنانية في شيء. فان المدارس والجامعات ذات المنشأ الوطني أو الأجنبي في لبنان أسهمت معاً في بناء تراث فكري عظيم يدخل في كيان التراث اللبناني بوجه عام. ولا أغالي اذا قلت ان لبنان سيواجه في السنوات العشر القادمة مشكلة التنسيق بين الجامعات القائمة على أرضه، والربط والتطوير في مناهجها، والتقريب فيما بينها على أسس موضوعية بعيدة عن المكابرة والتحزّب والارتجال. وعندها سيكون القرار المتعلق باللغات الأجنبية وانفتاحنا على الثقافات العالمية الحية قراراً حاسماً. فقد سبق، وأشرت، في الحديث على مؤسسة اللغة، الى أن أي انتقاص من الانفتاح اللبناني على التراثات الانسانية الكبرى بلغتها الحية، هو تنازل من جانب لبنان عن مركزه الفذّ، ودعوته الخاصة في الشرق الأدنى، وأضيف هنا أن هذا التنازل هو بمثابة كارثة ليس من المعقول أن يقدم لبنان على انزالها بنفسه، واضيف كذلك ان كل شوفينية في أمور الفكر والروح ليست من تراث لبنان في شيء على الاطلاق، فان لبنان واحد مع هوميروس، وأفلاطون، والكتاب، والاكويني، ودانته، وشكسبير، وغوته، وكانت، ودوستويفسكي، كما انه واحد مع القرآن، وعلي بن أبي طالب، وابن سينا، وابن رشد، والمتنبي، والجاحظ، وابي العلاء.
تراثنا الفكري الجامعي الذي يتعين ان نعمقه أضعافاً مضاعفة عما كان حتى الآن، يجب أن يرمي الى اكتناه الحقيقة التامة، في ميادين الوجود كافة، بالحرية المطلقة والانفتاح التام، بالمناقشة والحوار المسؤول، وبالمقاييس والاحكام العقلية المأثورة والمعترف بها في التاريخ، كل ذلك بقصد الوصول الى خلق عقلي عالمي جديد.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، بثّوا روح الجدّ والمسؤولية والرسالة في المدرسة والجامعة، في صفوف الطلاّب والمعلمين، واربطوا مؤسسة التربية والعقل بأرفع مراكز الخلق والابداع في العالم، في العلم والفكر والفنّ، عندئذ نخلق للأجيال الطالعة مؤسسة تراث مبدع عظيم.
7- المؤسسة اللبنانية السابعة التي تجسد التراث هي الكنيسة. واذا كانت الطوائف اللبنانية جميعاً تتفاعل متعايشة في قلب التراث، في اطار الشخصية المذهبية السمحاء، واذا كان النظام السياسي القائم في لبنان يستند الى هذا التوازن والتعاون الطائفي الذي يؤمن الاستقرار انطلاقاً من الاعتراف بالحقوق السياسية والاجتمتاعية لكل طائفة من الطوائف، فان الكنيسة التي تبدو ذات علاقة بالوجود الطائفي في لبنان، هي بطبيعتها وتراثها مستقلّة تمام الاستقلال عن أيّ شخصية مذهبية، سواء أكانت مسيحية أم غير مسيحية، وسواء أكان ذلك في لبنان أم في أي بلد آخر. فلو زال النظام الطائفي بكامله من لبنان، تبقى مع ذلك الكنيسة مؤسسة تراث حيّ فاعل.
ذلك ان الكنيسة هي " المؤسسة "، بأل التعريف، على الصعيد الانساني، وهي في لبنان المؤسسة التراثية المثلى، نظراً لقدمها وتأصلها واستمرارها، ومسكونية انتمائها. ولو انعمنا النظر في مؤسسات البشر كافة، لرأيناها تنهل من معين الكنيسة وتتأّثر بها حضارياً وتنظيمياً، بدرجات متفاوتة. الكنيسة مستقلّة تماماً عن أيّ نظام اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، وتراثها قائم في حدّ ذاته، بل انه معطى من خارج هذه الأنظمة جميعا.
أما أهمية الكنيسة الأم في التراث اللبناني، فهي انها وجدت في لبنان منذ أن وجدت، ولم تنفصل منذ وجودها، وخلال الألفي سنة من تاريخ وجودها في لبنان، عن مركزيها العالمّيين : القسطنطينية في الشرق، ورومة في الغرب. هذا الاتصال العضوي، الذي لم ينفصم اطلاقاً، بالمركزين الرئيسيين نكاد الاّ نجده في بلد آخر غير لبنان، ليس في الشرق الأدنى وحسب، بل في العالم بأسره.
الكنيسة لا تبتغي شيئاً من الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة، بل أن كل ما تبتغيه هو أن يسمح لها بالوجود والعمل الحرّ، وهي لا تتحمل مسؤولية أيّ قرار سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، فلديها مسؤولياتها الخاصة، في الحفاظ على الوديعة الغالية التي تسلمتها، وفي تقديم بشراها الى العالم، وفي تعهد بيعتها وصون حريتها. انها تنبه للخطأ، وتنهي عن الظلم، ولكن على المخطئين والظالمين، ومن يقع عليهم فعل الخطأ والظلم، أن يتحمّلوا مسؤولياتهم في الزمان والمكان. فللكنيسة ميدانها الخاص، ومصدر سلطتها هو مصدر آخر مستقل. غايتها انقاذ النفوس من ربقة الشرّ والفساد، واخراج العقول من الظلمة الى النور، أياً كانت الظروف أو الأنظمة التي تعايشها. ان تراث الكنيسة العظيم لا يدانيه أي تراث آخر من صنع البشر، تراث يتصل بألوف الشهداء، والقديسين، والفلاسفة، والمعلمين، والأدباء، والعلماء، والمفكّرين، والفنّانين، وأهل الخير من بناة صروح العلم، ودور التمريض، وملاجيء العجزة والبؤساء والمعذّبين في الأرض، كما يتصل بمواكب لا نهاية لها من المؤمنين بالعدالة، العاملين في اطار المحبة، الساعين الى الخير والصلاح، المنشئين هياكل الايمان والمرسين قواعد السلطان من رجال الدين والدنيا.
ولا يمكنني بعد أن أتصوّر التراث اللبناني بدون الكنيسة، هذه المؤسسة العظمى، في مسكونيتها، وقدمها، ورسوخها، وغناها، وفي كونها أسهمت كبير الاسهام في أن يظّل لبنان مطلاً مشرفاً على أبعد آفاق المعمورة، شرقاً وغرباً.
أتريدون احياء التراث ؟ اذن، صونوا حقّ الكنيسة التام في انماء ذاتها وفقاً لقوانينها وتقاليدها المستقلة، وليشترك بالفعل ابناؤها المؤمنون، بعيداً عن كل سياسة، في استحضار دفق جديد من الروح القدس عليها، عندئذ تقدّم ذاتها في لبنان، كما تقدّم ذاتها في كل مكان، بركة لكل انسان، لأنها مؤسسة تراث زاخر عريق باق الى الأبد.
قررنا، في مطلع هذا البحث، امرين أساسيين :
قررنا أولاً ان ما نسميه تراثنا يجب أن يكون حياً باقياً فينا. لذلك لا يحقّ لنا أن ندعي ارثاً لا نتعهد اليوم بالفعل، حتى ولو نشأ على أرضنا في غياهب الماضي السحيق، فتلك محاباة كاذبة، ومفاخرة في غير موضعها.
وقررنا ثانياً أن التراث الحيّ الباقي لا يكمن في الخيال والتصوّر والادّعاء، بل يتجسد في مؤسسات قائمة تسمى بأسمائها، وقد تبين لنا انها سبع مؤسسات : القرية اللبنانية، الوساطة اللبنانية، الشخصية المذهبية السمحاء، اللغة العربية وتراثها، الدولة، المدرسة، الكنيسة.
والمهّم في هذه جميعاً ليس انها توحي بتأمّلات وأفكار، بل المهّم هو كونها موجودةً بالفعل، حيّة، باقية، مستمرّة. انها تختلف ولا ريب، أصالةً، وتواصلاً، وتأصلاً، وغنى وقوة، ومراتب، وابعاداً، وبتفاوت ما تمثله في الوجود اللبناني، وما تعنيه وما تحتويه، ولكنها هي المؤسسات التراثية الحية الحقيقية التي يتعين انماؤها حاضراً ومستقبلاً.
هنالك مؤسّسات أخرى، كالأحزاب السياسية، والنقابات، والهيئات الاجتماعية، والصحافة، وبعض العائلات اللبنانية، وبعض الجمعيات والتنظيمات الأهلية، وغيرها مما لا مجال الى تعداده، ولكن هذه المؤسّسات لا يمكن أن تقارن عمقاً، واتساعاً، وشمولاً، وبعد أثر، بالمؤسسات التراثية السبع التي ذكرنا. فاذا قلنا " لبنان تراثاً " فنحن نعني هذه المؤسسات السبع بالذات، واذا قلنا باحياء التراث، فعلينا أن نعنى بهذه المؤسسات قبل أيّ شيء آخر.
والآن، ما هو الطابع الذي يطبع هذه المؤسسات التراثية جميعاً ؟ وما هي روحها المتأصّلة فيها ؟ وما هو سرها المكنون ؟انه طابع الحرّية، وروح الاحترام، لأن الحرية المسؤولة تفترض الاحترام.
لبنان التراث هو الحرية والاحترام.
يوم عانى لبنان ما عاناه في الأمم المتحدة لاثبات كرامة الانسان، وحقوقه، وحرّياته الأساسية، في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، بصيغته الفريدة الرائعة، كانت أعماق الوجود اللبناني هي التي تنطق بأفواه ممثليه. ان قصة هذه المعاناة لم تكتب بعد، وهي، في خفاياها وأسرارها الكيانية، لن تكتب أبداً.
يبدأ الاعلان العالمي لحقوق الانسان كما يلي : " أما وان الاعتراف بكرامة الانسان المتأصّلة في كيان أعضاء الأسرة البشرية جميعاً، وبحقوقهم المتساوية، التي لا انتزاع لها عنهم، انما هو أساس الحرية والعدل والسلم في العالم..."
وتقول مادته الأولى : " يولد البشر كلهم أحراراً، متساوين، في الكرامة وفي الحقوق، وقد وهبوا عقلاً وضميراً، وعليهم أن يعامل بعضهم بعضاً بروح الاخاء."
والحقّ انه لولا هذه الكرامة وهذه الحقوق، ولولا هذه الحريةوهذا الاخاء، ولولا هذا العقل وهذا الضمير، لما كان لبنان، ولا تمكّن أن يتحدى الأزمنة والعصور حياةً وديمومة.
هذا هو الذي قلناه، وأعلنّاه، وسجّلناه أمام العالم بأسره، مراراً، وهذا ما عملنا على تجسيده أخيراً في هذه النصوص. وأؤكّد لكم ان احتفال العالم كلّ عام، في العاشر من كانون الأول، بذكرى الاعلان العالمي لحقوق الانسان هو احتفال بعيد لبنان. العالم بأسره يعرف الصنيع اللبناني، ويشهد له في هذا اليوم، ونحن لم نجعله بعد، مع الأسف، في طليعة أعيادنا الوطنية الرسمية.-أعود الى الحرية والاحترام، فأقول :
الحرية ليست فكرة أو عاطفة أو خيالاً. بل ان الحرية ليست أيّ شيء، ما لم تتجسّد في الأحرار. الحرية هي الانسان الكائن الحرّ. والانسان الحرّ المسؤول هو أعظم وأهمّ مؤسسة في التراث اللبناني.-ففي قمة التراث اللبناني يوجد الانسان الحرّ، ان هو وجد بالفعل.-الحرّ لا يكذب ولا ينافق.-الحرّ يعرف فضيلة الصمت-.الحرّ لا يغلب على أمره غوغائياً، ولا طموحياً، ولا شهوانياً. أما شهوة الحكم والتسلّط فأبعد ما تكون عنه.-الحقد والنكاية، والبغضاء والنميمة، وصغار النفس، والدس والتآمر في الظلام، كل هذه يفهمها الأحرار تماماً حين تمرّ بهم، لكنهم يمّرون بها دون أن تترك فيهم أيّ أثر.-الحرّ يخلق في كل لحظة – يخلق نفسه حرّاً.-الأحرار يقسون على أنفسهم حتى يتفجر الخلق فيهم تفجيراً.-همّهم أن يرتفعوا الى ملأ الاشراف الخلق، وفي فعل الخلق أن يوجدوا.-وهم اذ يرمقون لحظة الخلق بصبر وطول أناة، يخلقون ان هي جاءت، وان هي لم تجيء، يسجدون ويصلّون.-الأحرار يقبلون الصلب، وفي اليوم الثالث يقومون.
الأحرار لا يسألون عن الموت، ولا يهابون الحياة. يرحّبون بالموت، اذا كان فيه الحياة، واذا اقتضت الحياة الحرّة الشريفة موتاً، فانهم يحيونها.-همّهم أن يبقوا هم الأسياد، ليس على الآخرين، بل على كلّ ظلام وخسّة في نفوسهم.
هل يضبطون أفكارهم، هل ينظّمون تخيلاتهم، هل يكبحون جماح عواطفهم، هل يلجمون ألسنتهم، هل يتحملون آلامهم، هل يقبلون أقدارهم، هل ينتقدون أنفسهم – تلك هموم الأحرار.
الماضي لا يكّبلهم الاّ ما يكونون تائبين. والتوبة الصادقة تحرّرهم حتى من الماضي. تحرّرهم لأنها لا تنبع منهم. تحررّهم لأنها من لدن اللّه.-يقتنصون الوجود لأنّ الوجود وجدهم قبل أن يجدوه. وجدهم وترّبع فيهم، واستقّر، واستوى.
الأحرار لا يحلّلون، ويمحّصون، ويرفضون – الأحرار يعجبون ويحّبون.-الأحرار يقرّون بالأفضال، ويعترفون بالمصادر. الأحرار يعلنون الى من هم مدينون.-اذا عنت الحرية ضرورة السقوط أصبح الحرّ عبداً لما يسقط اليه.
أما الأحرار فيفسّرون حرّيتهم بأنها الابقاء على امكان السقوط، دون الوقوع بالسقوط بالفعل.-الحرّ يعرف تماماً أن الوجود لا يتوقّف عليه، بل على العكس، يعرف ويقّر أن وجوده هو يتوقف على الوجود الحقيقي الموجود.
الأحرار يعيشون في العالم، لكنهم ليسوا من العالم. الحرية قبس متعال آت من فوق.-الأحرار يقرون بما هو فوق، ويعترفون بمن هم متكلون عليه، ولذلك هم أحرار.-الأحرار يعنشون، ويونعون مع الأحرار، دون أن ينسخ بعضهم بعضاً، واذا كان حرّ ما نسخة تامة طبق الأصل عن أي حرّ آخر، فهو عبد.-انها الصداقة، والمعاشرة، والمشاركة، والمحبة، التي تعزّز الحرية في الأحرار.-يفتش الأحرار عن الأحرار في كل زاوية من زوايا الكون، في الزمان وفي المكان، وحين يجد بعضهم بعضاً، أيّاً كانت فوارق اللغة، والعصر، والتراث، والجنس، والدين، فكأنّهم وجدوا اللّه في وجوههم.
الوجود كله يحصر في النهاية في الانسان الشخص الكائن الحرّ. وكل تراث لا ينهض على أحرار، ولا يخلق أحراراً، هو تراث عقيم. الانسان الشخص الحرّ الكائن هو مؤسسة التراث الأولى، وكل مؤسسة أخرى انما تنحدر منه، وتؤول اليه. هو أمل الوجود، وهو قبلة المستقبل. هو الذي يبّرر كلّ ثقافة وكلّ تراث. وما لم تتمكن مؤسساتنا من خلق الانسان الشخص المسؤول، فباطل التبجح بالحرية، وعبث القول بالتراث.
وأخيراً انتقل الى " لبنان، أزلاً. "
لقد خصّ التراث العربي لبنان بأجمل الأوصاف.
ففي الحديث " أن من جبال الجنة أحد، وطور سيناء، ولبنان ."
وفي رواية للطبري عن ابن عباس ان آدم بنى البيت من خمسة أجبل : من طور سيناء، وطور زيتون، ولبنان، والجودي، وبنى قواعده .
وفي رواية للطبري عن ابن عباس ان آدم بنى البيت من خمسة أجبل : من طور سيناء، وطور زيتون، ولبنان، والجودي، وبنى قواعده .
وروي عن كعب الأحبار قوله : " لبنان أحد الجبال السبعة التي تحمل العرش يوم القيامة. "
وقد ذكر المؤرّخون العرب قول اللّه لابراهيم الخليل عندما صعد جبل لبنان : " انظر، فما أدرك بصرك فهو مقدّس. "
أما الشعراء العرب، من أمثال المتنبي، وابي نوءاس، والبحتري، والنابغة الشيباني، ونابغة بني ذبيان، وابي تمام، وابن خفاجة الاندلسي، وغيرهم، فقد تغنوا بجمال لبنان، ومنعته، وصموده، ودوامه، وبجباله المعّلقة في السماء، وضيافة أهليه، وتغزّلوا بحسانه، وخمره، وتفاحه، ومائه العليل، وشبّهوه بالبأس والعلاء.
الصديق كالنخل يزهر، ومثل أرز لبنان ينمي. المغرسون في بيت الرب يزهرون في ديار الهنا. ( ولعل أروع ما جاء في ذكر لبنان آيات " الكتاب " ، الذي كان الأسبق الى ذكراه بما لا يفوقه غير ذكر اللّه. فقد ذكر لبنان في " الكتاب " 71 مرة، والأرز 74 مرة، وصور 58 مرة، وصيدا 35 مرة، والصيدونيون 14 مرة. هذا ليس بالأمر التافه اذا علمنا ما هو " الكتاب ".
وقد ذكر المؤرّخون العرب قول اللّه لابراهيم الخليل عندما صعد جبل لبنان : " انظر، فما أدرك بصرك فهو مقدّس. "
أما الشعراء العرب، من أمثال المتنبي، وابي نوءاس، والبحتري، والنابغة الشيباني، ونابغة بني ذبيان، وابي تمام، وابن خفاجة الاندلسي، وغيرهم، فقد تغنوا بجمال لبنان، ومنعته، وصموده، ودوامه، وبجباله المعّلقة في السماء، وضيافة أهليه، وتغزّلوا بحسانه، وخمره، وتفاحه، ومائه العليل، وشبّهوه بالبأس والعلاء.
الصديق كالنخل يزهر، ومثل أرز لبنان ينمي. المغرسون في بيت الرب يزهرون في ديار الهنا. ( ولعل أروع ما جاء في ذكر لبنان آيات " الكتاب " ، الذي كان الأسبق الى ذكراه بما لا يفوقه غير ذكر اللّه. فقد ذكر لبنان في " الكتاب " 71 مرة، والأرز 74 مرة، وصور 58 مرة، وصيدا 35 مرة، والصيدونيون 14 مرة. هذا ليس بالأمر التافه اذا علمنا ما هو " الكتاب ".
في سفر حزقيال نجد نبوءة قاسيةً جداً على صور، نبوءة تحققت بالفعل في التاريخ، حين سقطت صور من مجد العظمة الى ذلّ الهوان. وسبب هذا الحكم الصارم القاضي هو، كما نقرأ في الكتاب، غنى صور، وترفها، وبطرها، وتجاّريتها، وكبرياؤها، والجشع المادي الذي وقعت فيه، واكتفاؤها في ذاتها بعيداً عن اللّه. " يا ابن البشر، قل لرئيس صور، هكذا قال السيد الرب، ان قلبك قد طمح فقلت : اني اله، وعلى عرش اله جلست في قلب البحار، وانت بشر لا اله، ولكن جعلت قلبك كقلب اله... من كثرة اتجارك امتلأ باطنك جوراً، وخطئت... بكثرة آثامك في ظلم اتّجارك دنّست مقادسك... فلذلك هكذا قال السيد الرب : بما انك جعلت قلبك كقلب اله، لذلك هاءنذا اجلب عليك الغرباء معتزي الأمم، فيجّردون سيوفهم على بهجة حكمتك ويدنسون بهاءك." ( حزقيال، الفصل 028 )
هذا الحكم الرهيب الهائل أطلقه حزقيال على صور، وقد نفذ الحكم تاريخياً بالفعل. وهو ذاته يطلق اليوم، والى الأبد، على كل مادّية، وكل جشع، وكلّ ظلم، وكلّ استكبار، وكلّ اكتفاء ذاتي زائف، وكل " تفشيط "، وكلّ تأليه للانسان دون اللّه الخالق. واذا كان لعصرنا، في العالم كله، صفة مميزة، فهي بالضبط صفة المادّية، والجشع، والظلم، والاستكبار، والاكتفاء الذاتي، والابتعاد عن اللّه، أعني الصفة الصورية القديمة. لذلك فالحكم على صور أصبح حكماً أزلياّ على كل مادّية، وجشع، وجور، واكتفاء ذاتي. وهكذا يفرح لبنان اليوم، بخوف ورعدة، لأن اللّه استخدم وجهاً من وجوه الحياة في لبنان بالذات للحكم على أخطر انحراف روحي معاصر : المادّية، والالحاد، والاكتفاء الانساني.
هذا من حيث استخدام لبنان، أزلياً، للحكم على كل ابتعاد عن اللّه، وكل اكتفاء بالمادة والانسان.
قلت ان لبنان ذكر 71 مرة والأرز 74 مرة. وأهمّ من مجرد ذكر الشيء القرينة والجوّ اللذان يذكر فيهما. فاذا حصرنا بحثنا في لبنان والأرز فقط ( ما عدا الشاهد الأخير )، فالغريب في أمر ذكرهما في الكتاب أنهما لم يذكرا مرة واحدة في قرينة أو مناسبة يشتم منها أيّ نقد أو ادانة أو أيّ قدح أو تحقير. القرينة في معظم الأحيان تعبق بالمحبة والتكبير، والجوّ في معظم الأحيان يوحي الوقار والتفخيم.
دعني أجوز فارى... هذا الجبل الحسن ولبنان. ( تثنية 3 : 25 )
... وجميع آنية بيت غابة لبنان كانت من ذهب خالص لم يكن فيها فضة... ( 3 ملوك 10 : 21 )
غلته في رؤوس الجبال تتموج كلبنان، ويزهر أهل المدن مثل عشب الأرض. ( مزمور 71 : 16 )
مزمور 91 : 13 – 14 )
تروي اشجار الرب أرز لبنان التي غرسها. هناك تعشعش العصافير. ( مزمور 103 : 16 – 17 )
هلمي معي من لبنان، ايتها العروس، معي من لبنان، انظري من رأس امانة، من رأس سنير وحرمون، من مرابض الأسود، من جبال النمور. ( نشيد الانشاد 4 : 8 )
شفتاك يا عروس تقطران شهداً، وتحت لسانك عسل ولبن. ورائحة ثيابك كرائحة لبنان. ( نشيد الانشاد 4 : 11 )
عين جنات، وبئر مياه حيّة، وانهار من لبنان. ( نشيد الانشاد 4 : 15 )
ساقاه عمودا رخام موضوعان على قاعدتين من ابريز، وطلعته كلبنان. هو مختار كالأرز. (نشيد الانشاد 5 : 15 )
ستفرح البرية والقفر وتبتهج البادية وتزهر كالورد. تزهر أزهاراً، وتبتهج ابتهاجاً مع ترنيم. قد اوتيت مجد لبنان، وبهاء الكرمل والشارون، فهم ينظرون مجد الرب وبهاء الهناء. ( اشعيا 35 : 1 – 2 )
قومي استنيري فان نورك قد وافى، ومجد الرب اشرق عليك. ها ان الظلمة تغشى الأرض والديجور يشمل الشعوب. ولكن عليك يشرق الرب ويتراءى عليك مجده. فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء اشراقك... مجد لبنان يأتي اليك. السرو، والسنديان، والشربين، جميعاً لزينة مقدسي، وامجد موطيء قدمي. ( اشعيا 60 : 1 – 3 و 13 )
هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان. أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية. ( ارميا 18 : 14 )
هكذا قال السيد الرب، ان النسر العظيم، ذا الجناحين العظيمين، الطويل القوادم، الممتلىء ريشاً، الكثير الألوان، قد أتى لبنان، وأخذ ناصية الأرز. ( حزقيال 17 : 3 )
وأكون لاسرائيل ( هنا اسرائيل تعني في العقيدة المسيحية الكنيسة ) كالندى فيزهر كالسوسن، ويمدّ عروقه كلبنان، وتنتشر فروعه، ويكون بهاؤه كالزيتون، ورائحته كلبنان. فيرجع الساكنون في ظله ويحيون بالحنطة ويزهرون كالكرم، ويكون ذكره كخمر لبنان. ( هوشع 14 : 6 – 8 )
قال يسوع للمرأة التي أتت اليه من تخوم صور وصيدا مستغيثةً من أجل ابنتها التي بها شيطان يعذّبها : " يا امرأة، عظيم ايمانك، فليكن لك كما أردت. " ( متى 15 : 28 )
هذه شهادة الكتاب عن لبنان. المهم ما تنطوي عليه هذه الشهادة من معنى وايحاء. ما الذي يعنيه لبنان في الكتاب ؟ وبماذا اقترن اسم لبنان في الكتاب ؟ وما الذي اوحى به لبنان الى الاذهان التي وضعت الكتاب ؟
لقد أوحى لبنان وعنى الجبل الجميل، غابة الأرز " التي غرسها الرب. "
أوحى وعنى الغلة المتمّوجة، أزهار العشب، الشهجد، والعسل، واللبن، والأبريز.
أوحى وعنى الذهب الخالص، والخمر المعتق، والرائحة الزكية.
أوحى وعنى السرو، والسنديان، والزيتون، والشربين، والحنطة، والكرم، والسوسن، والندى.
أوحى وعنى العصافير ومرابض الأسود وجبال النمور.
أوحى وعنى الجنات، والثلج، والأنهار، والمياه الحية، والمياه المنفجرة الباردة الجارية.
أوحى وعنى العروس الجميلة التي فاق جمالها كلّ تصور.
أوحى وعنى البر الصامد لأن " الصديق مثل أرز لبنان ينمي ."
أوحى وعنى " بيت الرب "، " ديار الهنا ."
أوحى البهاء، والمجد، والضياء، والرفعة، والطلعة المشرقة.
أوحى الفرح، والبهجة، والترنيم.
أوحى اشراق الرب.
أوحى النسر العظيم.
أوحى الايمان العظيم.
ولو علمنا ما هو الكتاب، وان وضعه استغرق ألفي سنة، وان هذه الشهادة عن لبنان واحدة فيه غير متقطعة من أوله الى آخره، وانه أكثر الكتب انتشاراً في العالم، ولو دققنا في كثافة هذه الشهادة ونوعيتها ومضمونها – لو فعلنا كل هذا، لاعترانا شعوران غريبان متناقضان. الشعور الأول فرح كبير، لأن هذا الكتاب العظيم يعطي هذه الشهادة الفائقة عن هذا البلد الصغير. والشعور الثاني خجل كياني عميق، لأن ما يعنيه لبنان في " الكتاب " وما يعنيه " الكتاب " بالنسبة للبنان، لا ينطبقان، مع الأسف، على وجوه بعض الواقع في لبنان.
وفي التوتر والمشادة الكئيبين بين ذلك الفرح وهذا الخجل، يقضي اللبناني الفاهم المخلص المسؤول حياته كلها.
لا ريب في أن الأزل هو القديم، ونحن قررنا في البداية الاّ نعكف على الماضي القديم، بل أن نتطلع الى المستقبل الآتي. ولكن المستقبل لا يخلق من العدم. المستقبل يرسمه الأزل. والكتاب يحتلّ بين كتب الأزل مركزاً خاصاً، لذلك فان شهادته ستبقى الى الأبد، وستبقى معها الصورة التي رسمها للبنان. أي ان كل من يقرأ الكتاب، من الآن والى الأبد، سيتأمل في رسمه الأزلي للبنان. نحن في لبنان نعيش في ظلّ ما كتبه الأزل لنا، وما توقعه منا، وما لن ينفك عنا حتى نكونه بالفعل. الأزل اذن ليس حيادياً بالنسبة الينا، ونحن لا نقع خارج حكمه. لقد خصّنا بعناية فريدة. وفرحنا بهذه العناية لا يعادله الاّ شعورنا بحملها الثقيل الملقى على عاتقنا. لكن اللّه لا يكلف نفساً الاّ وسعها.
تروي اشجار الرب أرز لبنان التي غرسها. هناك تعشعش العصافير. ( مزمور 103 : 16 – 17 )
هلمي معي من لبنان، ايتها العروس، معي من لبنان، انظري من رأس امانة، من رأس سنير وحرمون، من مرابض الأسود، من جبال النمور. ( نشيد الانشاد 4 : 8 )
شفتاك يا عروس تقطران شهداً، وتحت لسانك عسل ولبن. ورائحة ثيابك كرائحة لبنان. ( نشيد الانشاد 4 : 11 )
عين جنات، وبئر مياه حيّة، وانهار من لبنان. ( نشيد الانشاد 4 : 15 )
ساقاه عمودا رخام موضوعان على قاعدتين من ابريز، وطلعته كلبنان. هو مختار كالأرز. (نشيد الانشاد 5 : 15 )
ستفرح البرية والقفر وتبتهج البادية وتزهر كالورد. تزهر أزهاراً، وتبتهج ابتهاجاً مع ترنيم. قد اوتيت مجد لبنان، وبهاء الكرمل والشارون، فهم ينظرون مجد الرب وبهاء الهناء. ( اشعيا 35 : 1 – 2 )
قومي استنيري فان نورك قد وافى، ومجد الرب اشرق عليك. ها ان الظلمة تغشى الأرض والديجور يشمل الشعوب. ولكن عليك يشرق الرب ويتراءى عليك مجده. فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء اشراقك... مجد لبنان يأتي اليك. السرو، والسنديان، والشربين، جميعاً لزينة مقدسي، وامجد موطيء قدمي. ( اشعيا 60 : 1 – 3 و 13 )
هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان. أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية. ( ارميا 18 : 14 )
هكذا قال السيد الرب، ان النسر العظيم، ذا الجناحين العظيمين، الطويل القوادم، الممتلىء ريشاً، الكثير الألوان، قد أتى لبنان، وأخذ ناصية الأرز. ( حزقيال 17 : 3 )
وأكون لاسرائيل ( هنا اسرائيل تعني في العقيدة المسيحية الكنيسة ) كالندى فيزهر كالسوسن، ويمدّ عروقه كلبنان، وتنتشر فروعه، ويكون بهاؤه كالزيتون، ورائحته كلبنان. فيرجع الساكنون في ظله ويحيون بالحنطة ويزهرون كالكرم، ويكون ذكره كخمر لبنان. ( هوشع 14 : 6 – 8 )
قال يسوع للمرأة التي أتت اليه من تخوم صور وصيدا مستغيثةً من أجل ابنتها التي بها شيطان يعذّبها : " يا امرأة، عظيم ايمانك، فليكن لك كما أردت. " ( متى 15 : 28 )
هذه شهادة الكتاب عن لبنان. المهم ما تنطوي عليه هذه الشهادة من معنى وايحاء. ما الذي يعنيه لبنان في الكتاب ؟ وبماذا اقترن اسم لبنان في الكتاب ؟ وما الذي اوحى به لبنان الى الاذهان التي وضعت الكتاب ؟
لقد أوحى لبنان وعنى الجبل الجميل، غابة الأرز " التي غرسها الرب. "
أوحى وعنى الغلة المتمّوجة، أزهار العشب، الشهجد، والعسل، واللبن، والأبريز.
أوحى وعنى الذهب الخالص، والخمر المعتق، والرائحة الزكية.
أوحى وعنى السرو، والسنديان، والزيتون، والشربين، والحنطة، والكرم، والسوسن، والندى.
أوحى وعنى العصافير ومرابض الأسود وجبال النمور.
أوحى وعنى الجنات، والثلج، والأنهار، والمياه الحية، والمياه المنفجرة الباردة الجارية.
أوحى وعنى العروس الجميلة التي فاق جمالها كلّ تصور.
أوحى وعنى البر الصامد لأن " الصديق مثل أرز لبنان ينمي ."
أوحى وعنى " بيت الرب "، " ديار الهنا ."
أوحى البهاء، والمجد، والضياء، والرفعة، والطلعة المشرقة.
أوحى الفرح، والبهجة، والترنيم.
أوحى اشراق الرب.
أوحى النسر العظيم.
أوحى الايمان العظيم.
ولو علمنا ما هو الكتاب، وان وضعه استغرق ألفي سنة، وان هذه الشهادة عن لبنان واحدة فيه غير متقطعة من أوله الى آخره، وانه أكثر الكتب انتشاراً في العالم، ولو دققنا في كثافة هذه الشهادة ونوعيتها ومضمونها – لو فعلنا كل هذا، لاعترانا شعوران غريبان متناقضان. الشعور الأول فرح كبير، لأن هذا الكتاب العظيم يعطي هذه الشهادة الفائقة عن هذا البلد الصغير. والشعور الثاني خجل كياني عميق، لأن ما يعنيه لبنان في " الكتاب " وما يعنيه " الكتاب " بالنسبة للبنان، لا ينطبقان، مع الأسف، على وجوه بعض الواقع في لبنان.
وفي التوتر والمشادة الكئيبين بين ذلك الفرح وهذا الخجل، يقضي اللبناني الفاهم المخلص المسؤول حياته كلها.
لا ريب في أن الأزل هو القديم، ونحن قررنا في البداية الاّ نعكف على الماضي القديم، بل أن نتطلع الى المستقبل الآتي. ولكن المستقبل لا يخلق من العدم. المستقبل يرسمه الأزل. والكتاب يحتلّ بين كتب الأزل مركزاً خاصاً، لذلك فان شهادته ستبقى الى الأبد، وستبقى معها الصورة التي رسمها للبنان. أي ان كل من يقرأ الكتاب، من الآن والى الأبد، سيتأمل في رسمه الأزلي للبنان. نحن في لبنان نعيش في ظلّ ما كتبه الأزل لنا، وما توقعه منا، وما لن ينفك عنا حتى نكونه بالفعل. الأزل اذن ليس حيادياً بالنسبة الينا، ونحن لا نقع خارج حكمه. لقد خصّنا بعناية فريدة. وفرحنا بهذه العناية لا يعادله الاّ شعورنا بحملها الثقيل الملقى على عاتقنا. لكن اللّه لا يكلف نفساً الاّ وسعها.
samedi 22 novembre 2008
dimanche 16 novembre 2008
jeudi 13 novembre 2008
mercredi 12 novembre 2008
mardi 7 octobre 2008
lundi 6 octobre 2008
mercredi 1 octobre 2008
Inscription à :
Articles (Atom)