Jarayid.comفينيقيّون بين الأمس واليوم
أنسي الحاج
■ فينيقيّون
كان الفينيقيون يعبدون الشمس والسلام. إمبراطوريّة قامت على الغزو التجاري. كانوا واقعيين، لكن واقعيتهم لم تُنشّف عروقهم تماماً، فهاموا بآلهتهم وصدّروها إلى مصر وإلى يهود فلسطين، ونسجوا الأساطير، وبنوا المدافن كما تُبنى المنازل، إراحةً للأرواح.
لا نعرف كيف كان الفينيقيّون يعاملون فقراءهم، غير أن شغفهم بالنجاح ورغد العيش لا يبشّر بكبير إنسانيّة ولا بذمم طاهرة. هل كانوا كرماء؟ هل أهل البحر كرماء؟
أيّاً يكن سلوكهم حيال الفقراء، فمن المؤكد أن الفينيقيّين كانوا محسودين على نجاحهم ومكروهين لقلّة مثاليّتهم وضعف قابليّتهم للانخداع. كتب التأريخ، قديمها وحديثها، إلّا ما نَدَر، لا تأتي على ذكر نوابغهم أو إسهاماتهم الحضاريّة عموماً، فلم يصلنا عنهم غير العموميّات والتركيز على تجاريّتهم، وحين يحكى عن فلاسفتهم، رواقيّين وسواهم، يُنسبون إلى اليونان، كما يُنسب منهم رجال دولة وقانون وعلم إلى الرومان، تبعاً لأيٍّ من الدولتين كانت السيطرة.
كانت نساؤهم ماهرات. وكان جمال الجميلات آسراً. «هلمّي معي من لبنان يا عروس معي من لبنان». في عهد سليمان ابن داود، والذي وَقَع في عشق العديد منهنّ، بلغ بهنّ النفوذ حدّ تغليب عبادة آلهتهنّ في عقر دار إسرائيل على عبادة يهوه، واعتنق يهود كثيرون الديانة الفينيقيّة، واجدين فيها هواءً نقيّاً أعوزهم في خانوق التزمّت اليَهْوَهيّ. حتّى قامت قيامة رجال الدين عليهنّ وألّبوا الغوغاء وقضت فينيقيّات إسرائيل بمجازر عنصريّة.
■ ■ ■
لا نزال نقرأ تاريخنا (وتواريخ أمثالنا من الشعوب الرازحة دوماً تحت احتلالٍ ما لا بدّ أن يجرّ معه تزويراً تاريخياً) من خلال مناظير منحازة، في الطليعة منها مناظير التأريخات المستندة إلى الميثولوجيا الكلاسيكيّة الغربيّة، الإغريقية ـــــ الرومانيّة. وإذا وصلنا إلى مستند «توحيدي» إبراهيمي هو العهد القديم أو التوراة، وكثيراً ما يُسْتَند إليه، نجدنا، نحن الفينيقيّين وأهل ما بين النهرين ومصر خاصّة، نردّد أهاجي أعداء الأمس ضدّنا ونتبنّاها، بسرور الغباء وبَرَكَة إبراهيم أبي الأديان الثلاثة.
يجب إعادة الاعتبار إلى وثنيّاتنا، إلى جاهليّاتنا. كان أجداد أجدادنا يتفوّقون علينا في البحث، وكانوا، وهذا أهمّ، في عناقٍ عميق مع الطبيعة. كان العالم شابّاً، وأجداد أجدادنا شبّاناً. كانت العيون تحبو. لم يكن الإنسان عبداً للكواكب، بل صديقاً لها تحكي لغته ويحكي لغتها. كان الجبل حديث الولادة والبحر مراهقاً والثور بكراً والنعجة مغرورة. وكان الإنسان جديداً. وكان ابن هذه الأرض رائداً من روّاد السلام بأبهى صورتيه: الحبّ والحريّة. أعطت عشتار العديد من الأمثلة، لا على إلهام العشق وتجسيد الجمال، بل أيضاً على الوقوع في العشق، والاتّضاع حتّى العذاب في عبادة المعشوق.
سواء اخترع الفينيقيّون الحرف أو اقتبسوه من المصريّين يعود لهم فضل نشره في اليونان وأوروبا. لم يكن ذلك بدافعٍ ثقافيّ، غير أن النتيجة كانت إخراج أوروبا من البربريّة.
يُذكّر لبنانيو الحاضر بفينيقيّي الأمس لناحيةٍ غير مشرِّفة، هي استغلال السُذّج والمغلوبين على أمرهم. يُروى عن الفينيقيّين أنّهم، خلال عملهم في «المستعمرات»، أو حتّى على سفنهم، كانوا يرهقون عمّالهم ولا يدفعون لهم إلّا أبخس الأجور. وفي التعامل التجاري برعوا في الحيلة وفي الاحتيال، حتّى أضحت لفظة فينيقي شتيمة باللسان اليوناني. وتُروى أمثال هذه الحكايات وأشنع منها عن بعض مهاجرينا المعاصرين إلى أفريقيا وقبلها أميركا اللاتينيّة، حيث تمادى هذا البعض في استغلال طيبة السود والهنود بلا أخلاقيّة فظيعة.
■ ■ ■
لا نعرف كيف استطاع أدباء وفلاسفة أن يَطْلعوا في البيئة الفينيقيّة. ولا إذا كانوا قد طلعوا. التاريخ يُغفلهم. هل أدباؤنا المعاصرون حقيقيّون؟ هل مثاليّونا أصيلون؟ أم نحن مجرّد مقلّدين ومقتلَعي الجذور؟
في أحسن الأحوال، إذا أردنا التساهل، نحن ردّة فعل متفاوتة القيمة على طبيعة دهريّة في مجتمعنا هي الطبيعة التجاريّة المتأصّلة خصوصاً في سكّان الجهة البحريّة من بلادنا. أدباؤنا هم غالباً وارد الجبال، حيث الزراعة كانت ضماناً ضد الوعي التجاري الواسع والمتوسّع، قبل أن ينحدر الجميع إلى المدينة البحريّة ويتخلّقوا عموماً بأخلاق المرافئ.
لقد عاش فينيقيّو البحر، وأحفادهم فينيقيّو كلّ الأقاليم، خيالهم في الواقع المحسوس عبر المغامرة ذات الربحيّة وعبر الاتصال بالشعوب كزبائن والاتّجار وإيّاهم. كانت البحبوحة الماديّة هي الملهمة وهي الغاية. وكان نشر الحرف واسطة إلى هذه الغاية ورافعة معنويّة.
الأدباء اللبنانيّون نبتة غريبة. كلّ هذا المتوسّط إغراء بفرح العيش السطحي. شمسه مصطافة في جميع الفصول. يضحك المتوسّط أبلهَ ضحكةٍ في العالم. متوسّط الطول والعرض والموهبة والأخلاق. لا ملاك هنا ولا شيطان: ناسٌ أذكى من العاصفة.
اليونان شذّوا مرحليّاً على هذه القاعدة يوم اخترعوا التراجيديا. شعراؤهم أولئك لم يكونوا متوسطيّين. كانوا خيانة للمتوسّط، كما هما فكتور هوغو وبودلير خيانتان للعقلانيّة الفرنسيّة.
ما وراء اشقرار ذَهَب السماء والبحر، غرّز مسرحيّو التراجيديا الإغريقيّة عيونهم في عين العاصفة، وأخذوا على عاتقهم عبء الغَرَق.
الاخبار 10-10-2011
شكر لجريدة الاخبار على اهتمامها بتحفة عين إبل الاثرية
وبالمناسبة نود تذكير مواطنينا اللبنانيين أن ما قام به بعض مثقفي عين إبل ومحبّبي تراثها ، بالتعاون مع رئيس بلديتها وأعضاء اللجنة الثقافية فيها، أنما هو فعل تحدّ من أجل المطالبة بالحقوق المشروعة للوطن الصغير لبنان.ليس على صعيد التراث وحسب بل على كل صعيد. إن نجاحنا في انتزاع جزء من حقنا القابع في صالات متحف اللوفر وغيره من متاحف وقصور البلدان التي استعمرت لبنان أو أقامت في ربوعه احتلالا وقسرا عن ارادة بنيه في زمن من الأزمان ، انما هو حافز ومشجع للجميع من أجل المضي في استرجاع الكثير من الكنوز المبعثرة بين باريس واسطنبول ولندن واسرائيل وغيرها.وألاهم من ذلك أيضا أن يوقف إهدار ما تبقى من تراثنا فوق معظم الاراضي اللبنانية ولا سيما في الجنوب حيث توجد اثار ثمينة بين عين إبل وقانا وصور وصيدا والصرفند، وعلى طول طريق القلاع الممتدة بين أم العواميد والاسكندرون جنوبا الى دير كيفا وتبنين ودوبيه والشقيف وجبل الريحان ، امتداد الى حاصبيا وجزين وسواهما في سفوح واعالي جبل حرمون.نأمل أن يعطى هذا التراث حقه من الاهتمام، لأنه يحتوي على جزء ثمين من ذاكرة الحضارة العالمية.عين إبل خطت خطوة يسيرة، أما الباقي فهو كثير..
عين ابل تفاوض اللوفر وتستعيد نسخة عن تحفتها
ويوضح رئيس البلدية فاروق بركات ذياب أن رينان اكتشف أثناء جولته في عين ابل «صخرة كبيرة تعود الى العصر الروماني منحوت عليها صورة الالهين أبوبلون المعروف ببعل، وديانا أرتميست المعروفة بديانا، مع سهمين وثورين تتوسطهما شجرة نخيل، فعمد الى قصّ الصخرة ونقلها معه الى باريس». وكتب رينان في الصفحة 676 من دراسته عن معبد الدوير أن «حجارة المعبد ضخمة. بين الانقاض حجر كبير شبه مربع وتبرز على إحدى جهاته منحوتة غريبة مع كتابة. عرض علي البناؤون المسيحيون في قرية عين ابل قبل ان يفصلوا الواجهة المنحوتة في الصخر لكي تصبح رفيعة مما يسمح بنقلها على جمل حتى صور. وبالفعل اتموا هاتين المهمتين الصعبتين بكثير من الجدارة، وباتت المنحوتة الآن في اللوفر، وأعتقد أنها اغرب العيّنات عن طقوس العبادة السورية. ويمكن قراءة الكتابة عليها بصعوبة، وترجمتها هي: شيد هذا المبنى لراحة سلمان وهريقليت».
وأوضح دياب أن «أحد أبناء بلدة عين ابل اكتشف حقيقة فقدان الصخرة بعدما قرأ هذا النص في كتاب رينان وأطلع البلدية عليه، فبدأت عملية البحث عن المنحوتة بالاستعانة بأحد أبناء البلدة يوسف خريش الذي يعمل في المركز الكاثوليكي للاعلام، وقد استعان بدوره بابن عمه يوسف خليل خريش الموجود في فرنسا. وتبيّن لنا أن الصخرة موجودة في متحف اللوفر في باريس، وعمدنا الى توثيق الأدلّة التي تثبت ملكية الصخرة لعين ابل، واستمرت المفاوضات مع إدارة المتحف منذ العام 2003، الى أن أقرّ المعنيون هناك بمشروعية ادعاء بلدية عين ابل بملكية المنحوتة الرومانية، لكنها بينت أن القانون الفرنسي لا يسمح باسترداد أي قطعة أثرية مضى على وجودها في فرنسا أكثر من 70 عاماً، لذلك قرّرت الادارة نحت مجسّم شبيه (طبق الأصل) عن الصخرة المسروقة، وإرسالها الينا».
وقد تسلّم رئيس البلدية اللوحة الصخرية عبر ماري كلودين بيطار من مؤسسة «بروموريون» في 24 الشهر الماضي، أي بعد أكثر من 151 سنة من سرقة اللوحة الأصلية، وبعد نحو 9 سنوات من المفاوضات مع المتحف الباريسي. وقد عمدت البلدية الى ايداع اللوحة في قاعة البلدية تمهيداً لنقلها الى مكان لائق في البلدة بعد الاستعانة بمهندسين متخصصين. وقد عبّر ابناء البلدة عن سعادتهم بإنجاز البلدية الذي يعدّ انجازاً تاريخياً يحتذى من جميع البلديات لاستعادة آثارها المسروقة.
يذكر أن الصخرة المسروقة كانت في محلّة الدوير في عين ابل، وهي منطقة أثرية نُهبت على مراحل عدة، منذ حكم جمال باشا الجزار وحتى الاحتلال الاسرائيلي. علماً أن منطقة بنت جبيل غنية بالآثارات التي يعود بعضها الى أيام الكنعانيين، وقد تعرّضت أثناء الاحتلال الاسرائيلي لعمليات سرقة منظمة، فنبش الكثير من الأماكن الأثرية ونُهبت كميات كبيرة من النواويس والتحف الأثرية، وبعضها من الذهب الخالص، بحسب العديد من أبناء المنطقة، وبيعت الى جهات مجهولة.