بقلم جهاد الزين
النهار - 2012-09-06
عام 1957 في الثامن من أيار ألقى المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي محاضرةً في "الندوة اللبنانية" أمام حشد من النخبة السياسية والأكاديمية والثقافية اللبنانية كان موضوعها لبنان وتحت عنوان: "لبنان تجسيد (أو تعبير) التاريخ". كيف نقرأ الوضع الراهن بعد مرور 55 عاماً على "رؤية" أرنولد توينبي وهل تصلح مقاربتُه لقراءة الحاضر؟
لن أقوم هنا باختصار المحاضرة العصية على الاختصار بسبب كثافتها، لكن دعوني ألاحظ أنها سرعان ما ستتحول إلى محاضرة عن موقع "البرزخ السوري" في تاريخ الصراع في المنطقة. فهذا "البرزخ"isthme) ) أو المضيق البري يتشكّل في نظر توينبي من "شاطئين" بحري وصحراوي، الأول هو الذي يضم منذ قرون طويلة قبل الميلاد مرافئ الساحل البحري كجبيل وصيدا وصور امتدادا نحو الشمال والجنوب والثاني يضم مرافئ "الساحل" الصحراوي كدمشق وحمص وحماه وحلب حتى بُصرى.
وإذْ يتحدث توينبي عن انشداد قديم لمرافئ الساحل البحري إلى الغرب يشير الى انشداد مرافئ الصحراء إلى الشرق.
يقول توينبي مخاطبا النخبة اللبنانية أن شاطئي البرزخ السوري لا توحّدهما إلا قوةٌ خارجية بحيث أنهما لم يتمكّنا ذاتياً على مدى التاريخ من أنطاكيا إلى حيفا ومن حلب الى بُصرى من إقامة وحدة سياسية على الرغم من أنهما نجحا تباعاً في إقامة امبراطوريات ثقافية واقتصادية. فهما كانا دائما مجال تنافس بين غزاةِ الشمال من الحثّيّين والبيزنطيين والأتراك وغزاةِ الشرق من الفرس والأشوريين وغزاةِ الجنوب من المصريين إلى أن جاء الفرنسيون والإنكليز بعد 1920 وحوّلوهما إلى مجموعة دويلات متناحرة و"اليوم" (عام 1957) يحضر الأميركيون والروس.
كما أنهما كانا أحياناً إطارَيْن جغرافيّيْن لقوى متصارعة كما حصل في مرحلة الحروب الصليبية عندما احتضن "الشاطئ الصحراوي" الداخلي الإمارات المسلمة المواجِهة للإمارات الصليبية على "الشاطئ البحري".
لا يتورّع مؤرخٌ جدّيٌ جداً وعالميُّ النزعةِ التحليليةِ والشهرةِ عن أن يعتبر اللبنانيين في ذلك الزمن من خمسينات القرن العشرين أصحابَ "امبراطوريةٍ" اقتصادية مُدهشةِ الإزدهار في أوروبا وأميركا اللاتينية وإفريقيا ووارثةٍ لتقاليد التوسّع التجاري الفينيقي حتى لو ربما كان يتهكّم ضمنا في مطلع المحاضرة على لبنانيي الحاضر حين قال أنهم جَبَليّون وأن فينيقيا القديمة ساحلية تجسدها "ولاية بيروت" العثمانية البحرية لا "متصرفية جبل لبنان" الجبلية التي أُنشِئت عام 1864!
يذهب أبعد... فهو ينصح "رجال الأعمال" اللبنانيين الاستفادة بسرعة من الفرص المتاحة لهم في تلك الفترة في الخمسينات انطلاقا من توصيفٍ استخدمه الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور آنذاك حول الوضع في الشرق الأوسط هو "فراغ القوة".
يبني توينبي على هذا التعبير نظريته بأن ازدهار شاطئي "البرزخ السوري" المائي والصحراوي كان يحصل في مراحل "فراغ القوة" في المنطقة أي حين لا يكونان واقعَيْن تحت سيطرة محددة.
ووقتها كان يعتبر أن البريطانيين والفرنسيين خرجوا أو أخرِجوا (بضم الألف) وأن الصراع الأميركي الروسي سيعبِّئ حتما هذا الفراغ عاجلاً أم آجلا. لا مثيل لهذه المحاضرة قياساً على تُرّهات أو خرافات بعض المؤرخين الموارنة "الاستقلالية" و على تُرّهات أو خرافات بعض المؤرخين المسلمين "الوحدوية".
كيف إذن نقرأ الوضع الراهن على "الشاطئين" بعد مرور 55 عاماً على "رؤية" أرنولد توينبي وهل تصلح مقاربتُه لقراءة الحاضر؟ وأي أسئلة وأجوبة يمكن استخلاصها منها؟
بعد أشهر من المحاضرة انفجرت أول أزمة - حرب أهلية في لبنان في أجواء "فراغ القوة" الصارخ بعد الهزيمة السياسية ( لا العسكرية) للحلف الفرنسي – البريطاني - الإسرائيلي عام 1956 ضد مصر عبد الناصر بفضل تفاهم روسي - أميركي أرغم الإستعمار القديم على الإنسحاب.
في نهاية محاضرته قدّم أرنولد توينبي للطبقة السياسية اللبنانية نصيحة ثَبُتَ لاحقا و بعد فوات الأوان أنها من ذهب: في زمن تزايد الصراع الروسي - الأميركي على العالم العربي فإن جعلَ الموضوعِ الفلسطينيِّ المهمةَ الرئيسيةَ للديبلوماسيةِ اللبنانيةِ هو "مسألة حياة أو موت بالنسبة للبنان". هكذا سيؤدي تجاهلُ حلِّ القضية الفلسطينية إلى "موتٍ" لبناني لمدة حوالى 15 عاماً بعد العام 1975 خرج منها ولكن بأضرار بنيوية لم يتجاوزها حتى الآن، وربما لن يتجاوزها بعد الآن.
الجديد النوعي في عامي 2011 - 2012 هو انهيار "الشاطئ الصحراوي" مع انفجار الثورة السورية. ها هم سكان "مرافئ" دمشق وحمص وحماه وحلب وأريافها يهاجرون ويتهجّرون إلى "الشاطئ البحري"في طرابلس وبيروت وصيدا وصور (كما إلى المخيمات المذلّة في الصحراء الأردنية و بعض المدن التركية. وحده لبنان لم يُقِمْ مخيماتٍ من هذا النوع رغم التدفّق البشري). ألا تنهار مع الانهيار السوري محاولة نظام حافظ الأسد لتوحيد شاطئي "البرزخ" او معظمهما من داخلهما... المحاولة ذات الطابعين الفئوي والاستبدادي؟ فهل تتأكد بذلك مرةً أخرى نظرية توينبي باستحالة التوحيد الداخلي لِـ"الشاطئين"؟ وهل ستستمر معادلة الاستحالة هذه في المستقبل حتى لو انتقلت "الراية" إلى قوى ديموقراطية بعكس التجربة التاريخية في مصر التي لا تحتاج إلى غزو الخارج لتوحيد كيانها الداخلي؟ نتمنى إثبات المستقبل أن الديموقراطية يمكن ان تأتي بإرادة ذاتية لشكلٍ بنّاءٍ وتحديثيٍّ من الوحدة لا بالمزيد من التفتّت في "برزخنا" الشامي؟
ها هو الصراع الأميركي - الروسي ينفجر بشكل حاد على سوريا فيوقف الروسُ مؤقتا في السهول السورية "الغزوَ" الأميركي الآتي من شمال إفريقيا ومصر على أحصنة "القوة الناعمة" المطهّمةِ بالفكر الديموقراطي وبالتحالف المتجدد مع النخب العربية وعلى رأسها "الإخوانية" في مواجهة آخر قوة عسكرية متماسكة من النمط السوفياتي في العالم العربي.أصبحت حدودُ الصراعِ على سوريا العالمَ بأكمله في المواجهة بين التحالف الأميركي مع النفط وتركيا وأوروبا وبين التحالف الروسي – الصيني - الإيراني. مع فارقٍ رئيسيٍّ بين التكتّلين هو أن الأخير يخوض المواجهة من موقع دفاعي عن أوضاعه الداخلية بحيث أن المعركة هي داخل حدود بلدانه نفسها عبر دينامية "القوة الناعمة" الهجومية التي يمتلكها التكتّلُ الأول.
لبنان المنقسم بين التحالفين العملاقين كيف يستطيع – وهل يستطيع - أن يستفيد من "فراغ القوة" الجديد في "البرزخ السوري"؟ وهل هناك صيغة واقعية تتيح للطبقة السياسية اللبنانية التابعةِ و المستتبَعةِ أن تبني سياسةَ خدماتٍ أمنية واقتصادية وسياسية للطرفين المتصارعين على "الشاطئ الصحراوي" دون تفجير الحرب الأهلية على "الشاطئ البحري"؟
هل ستتمكّن البورجوازية التجارية اللبنانية وعلى رأسها القطاع المصرفي من "إقناع" الطبقة السياسية الشديدةِ التبعيّةِ بهذه المعادلة التي يحميها حتى اليوم التوافق الدولي الإقليمي غير المضمون الثبات؟
أشكر الصديقة العزيزة الدكتورة فاديا كيوان عميدة كلية العلوم السياسية في الجامعة اليسوعية التي أرسلَتْ لي نصَّ المحاضرة بعد أن طلبتُ مساعدتَها فأوعزت إلى فريق عملها الإداري بالتفتيش عنها في محفوظات الكلية.
Envoyé de mon iPad jtk
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire