بحث كان قد اعده في وقت سابق المنسنيور بولس فغالي
بناء على طلب من جمعية " على خطى المسيح في جنوب لبنان "
تم ترتيب مقاطع النص بما يتناسب مع الاطار التاريخي والمناطق الجغرافية
1- فينيقية
ممرّ الرسالة الإنجيليَّة
يرد اسم فينيقية ثلاث مرَّات في العهد الجديد، في أعمال الرسل.
في المرَّة الأولى، على أثر تشتُّت المؤمنين بعد مقتل إسطفانس. "أمّا الذين تشتَّتوا من جرَّاء الضيق الذي حصل بسبب إسطفانس، فاجتازوا إلى فينيقية وقبرس وأنطاكية" (أع 11: 19). هؤلاء الهاربون يتكلَّمون اليونانيَّة، بالتالي مضوا يكلِّمون الذين يعرفون لغتهم، وصولاً إلى أنطاكية.
في المرَّة الثانية، كان بولس وبرنابا عائدَين من أنطاكية مع "أناس آخرين" إلى أورشليم. "شيَّعتهم الكنيسة فاجتازوا في فينيقية والسامرة" (أع 15: 3). ما تحدَّث النصُّ عن منطقة الجليل اليهوديَّة، بل عن السامرة التي بشَّرها فيلبُّس أحد السبعة (أع 8: 4-9).
في المرَّة الثالثة، كان بولس عائدًا مع الفريق الرسوليّ إلى أورشليم. تحدَّث لوقا باسمه فقال: "فإذ وجدنا سفينة عابرة إلى فينيقية صعدنا إليها وأقلعنا، ثمَّ أطللنا على قبرس وتركناها..." (أع 21: 2-3).
اسم حديث لكنعان
أمّا في العهد القديم، فذكرت فينيقية ستَّ مرَّات، خمس منها مع "بقاع سورية" أو سورية الجوفاء (2 مك 3: 5، 8...).
اسم فينيقية الذي ذكره الشاعر اليونانيّ هومير هو شريط ساحليّ يجاور البحر المتوسِّط من جبل الكرمل حتَّى خليج الإسكندرونة في تركيَّا. هناك خلاف على أصل اللفظ. إمَّا يعود إلى المصريَّة فيدلُّ على سكَّان لبنان في المملكة القديمة (2680-2180)، أو يعود إلى اليونانيَّة فيشير إلى "الأحمر المعتَّم". وهذا معنى اسم كنعان (الأحمر الأرجوانيّ) كما كان الأمر في نوزي (أو: نوزو، في العراق الحاليّ) في القرن الرابع عشر ق.م. ومهما يكن من الأمر، فالفينيقيُّون دعوا أنفسهم الكنعانيِّين، على أنَّهم ورثتهم. في القرن الحادي عشر سيطروا على التجارة البحريَّة، ففتحوا مستوطنات في قبرس والأناضول والجزر اليونانيَّة ومالطة وصقلّيَّة والجزر الإسبانيَّة وأفريقيا الشماليَّة مع تأسيس قرطاجة سنة 814ق.م. وفي الداخل كان تأثيرهم كبيرًا في البقاع وكركميش السوريَّة ودمشق وأورشليم حيث تعاملوا بشكل خاصّ مع داود وسليمان...
- أبلية أو أبيلينة Abilene
قدَّم إنجيل لوقا الإطار الذي عاش فيه يوحنّا المعمدان ثمَّ يسوع المسيح، وهي السنة الخامسة عشرة لطيباريوس فيصر. فذكر "ليسانيوس رئيس ربع على أبلية" أو أبيلينة.
ترتبط هذه المنطقة بـ"أبيلا" التي هي اليوم سوق وادي بردى ، وتقع إلى الشمال الغربيّ من مدينة دمشق وسط سلسلة جبال لبنان الشرقيَّة. امتدَّت هذه المقاطعة في سهل البقاع ووصلت إلى حلبون.ليسانيوس
في عهد طيباريوس قيصر، شكَّلت أبيلينة مقاطعة حكمها ليسانيوس الأصغر. ثمَّ جمع أغريبَّا الأوَّل تحت سلطته إيطورية وأبيلينة. أمَّا شقيقه هيرودس فأضحى ملك خلقيس (41-48)، وحدود حكمه بعلبكّ أو هليوبولس. تلك المستوطنة الرومانيَّة. سنة 50، استلم الحكم هناك أغريبَّا الثاني. وعند موته ضُمَّت ممتلكاته في مقاطعة سورية.
-ليسانيوس ثمَّ أغريبَّا
ذُكر ليسانيوس أنَّه "حاكم هذه المنطقة". ووُجدَت مدوَّنتان رومانيَّتان في أبيلا تؤكِّدان حضور ليسانيوس في هذه الوظيفة على أيَّام أوغسطس قيصر، الذي توفّي سنة 14 ب.م. ويبدو أنَّ ليسانيوس هذا لبث في وظيفته حتَّى سنة 27-28 مع بداية نشاط يسوع الرسوليّ.
سنة 37ب.م.، سلَّم الإمبراطور كاليغولا هذه المنطقة إلى أغريبَّا الأوَّل، كما قال فلافيوس يوسيفس. وعند موته، عادت إلى ولاية الرومان (44-53) قبل أن يعطيها الإمبراطور كلوديوسلأغريبَّا الثاني، كما قال يوسيفس، الذي لبث يحكمها حتَّى وفاته سنة 92.
أبيلينة وهابيل
التقليد المحلّيّ ربط أبيلينة بهابيل الذي يكرَّم قرب سوق بردى على تلَّة النبيّ هابيل، على الطريق التي تقود إلى المدوّنة : "نحفايوس، مولى رئيس الربع ليسانيوس لخلاص السيِّدين أوغسطيّين" طيباريوس وامرأته ليفية.
- إيطورية
إطار الرسالة الإنجيليَّة
حين بدأ القدّيس لوقا الكلام عن رسالة يوحنّا المعمدان ويسوع، قدَّم الإطار الجغرافيّ، فذكر في ما ذكر مقاطعة إيطورية. يعود اسمها إلى يطور من نسل إسماعيل (تك 25: 15؛ 1 أخ 1: 31). أقامت شمالي الجزيرة العربيَّة. ونحن نجدها إلى الشرق من الأردنّ (1 أخ 5: 19)، ثمَّ على سلسلة لبنان الشرقيَّة في الحقبة الرومانيَّة إن لم يكن في الحقبة الهلنستيَّة.
بين خلقيس وبعلبكّ
ضمَّت إيطورية البقاع مع عاصمتها السياسيَّة خلقيس (عنجر) وعاصمتها الدينيَّة بعلبكّ (بعل البكاء). سنة 104-103ق.م، احتلَّها أرستوبولس الأوَّل من نسل الحشمونيِّين كما قال يوسيفس، على أيَّام بطليمس بن منايوس، امتدَّت إيطورية حتَّى البحر المتوسِّط وضمَّت أبيلينة وهدَّدت دمشق.
سنة 64 ق.م.، ثبَّت بومبيّوس، القائدُ الرومانيّ، بطليمس في حكمه. سنة 36ق.م.، قُتل ليسياس بن بطليمس على يد أنطونيوس، عدوّ بومبيّوس، عندئذٍ نال زينودور منطقة خلقيس، أي تراخونيتيس وبتانيا وحوران ومنطقة بانياس (السفح الجنوبيّ لجبل حرمون)، حيث منابع الأردنّ. هذه المقاطعات انتقلت إلى هيرودس الكبير (+4 ق.م.) الذي وُلد المسيح في أيَّامه وبعد موت هيرودس أضحت الربع الذي ناله فيلبُّس هيرودس.
2- قانا الجليل – معجزة يسوع
أربع مرَّات تُذكر قانا، وفي إنجيل يوحنّا وحده، مرَّتين بمناسبة العرس الذي تمَّ هناك (يو 2: 1-11). في البداية: "كان عرس في قانا الجليل" (آ1). وفي النهاية "هذه بداية الآيات فعلها يسوع في قانا الجليل". ومرَّة ثالثة، مع شفاء ابن خادم الملك. "فجاء يسوع أيضًا إلى قانا الجليل" (يو 4: 46) فاعتبر الشرَّاح أنَّنا أمام متتالية متكاملة: من قانا إلى قانا، من معجزة أولى تتحدَّث عن الساعة التي تعني موت يسوع إلى إقامة هذا الولد الذي خاف عليه أبوه أن يموت" (آ49). فقال له يسوع: "اذهب، ابنك حيّ" (آ50). والمرَّة الأخيرة التي فيها يرد اسم قانا، ففي كلام عن "نتنائيل الذي من قانا الجليل" (يو 21: 2).
أين تقع قانا؟
ولكنَّ السؤال المطروح هو: أين تقع قانا حيث المسيح حوَّل الماء إلى خمر؟ في العهد القديم، ورد "ق ن ه" في يشوع بن نون (19: 28) في لائحة المدن التي تخصُّ قبيلة أشير: "وعبرون ورحوب وحمُّون وقانة إلى صيدون العظيمة". نلاحظ أوَّلاً أنَّنا في "قبيلة أشير". كما نعرف أنَّ القبائل العبريَّة امتدَّت في الداخل باتِّجاه صور، بينما امتدَّ الفينيقيُّون على الساحل حتَّى عكَّا وجبل الكرمل. فإنَّ قانة هذه ترتبط بصيدون، شأنها شأن "لايش" (قض 18: 7) التي ترتبط بعلاقة بعيدة مع الصيدونيِّين.
قانا في لبنان
هناك من يرفض أن تكون قانا الجليل هي "قانة الصيدونيِّين"، بسبب الترجمات العربيَّة!! ففي اليونانيَّة، الكتابة هي عينها Kana بالنسبة إلى قانا الجليل وإلى قانة الصيدونيِّين. ثمَّ القول باستحالة وجود يهود في "قانة صور"، لا يستند إلى شيء إطلاقًا.
خلافات ودراسات. أمّا نحن فنذكر فقط أوسيب (265-339) أسقف قيصريَّة على شاطئ البحر. قال: "من قانا حتَّى صيدون العظيمة من نصيب أشير. وفيها حوَّل ربُّنا وإلهنا يسوع المسيح الماء خمرًا. ومنها نتنائيل وهي مدينة ملجأ في الجليل."
وترجم القدّيس جيروم (347-420) كتاب أوسيب من اليونانيَّة إلى اللاتينيَّة وأضاف: "هذه قانا هي اليوم قرية صغيرة في جليل الأمم."
دور مريم في قانا
سبقت مريمُ يسوع إلى العرس، ربَّما بسبب قرابة مع العريس أو العروس. وكانت أوَّل من لاحظ نفاد الخمر. هي الأمُّ الحاضرة، الناظرة إلى الأمور، المهتمَّة بالفرح لبلدة قانا. طلبت من يسوع برقَّة ما بعدها رقَّة ولطافة فائقة وكأنَّها لا تريد أن تفرض عليه المعجزة. ولكنَّ هذه المؤمنة تأكَّدت من أنَّ يسوع سيفعل شيئًا. ماذا؟ هي لا تعرف. ويكفي أن يطيع الخدم أوامر مريم التي وجَّهتهم إلى يسوع، وأن يطيعوا يسوع. عملوا ما هو غير معقول: وضعوا في الأجاجين ماء. ثمَّ وجب عليهم أن يسقوا "خمرًا" من ماء وضعوه بأيديهم. أطاعوه دون أن يفهموا، أطاعوه لأنَّهم أحسُّوا بقدرة يسوع ونظره ويديه. عندئذٍ، رأى التلاميذ مجد يسوع وآمنوا. وساروا وراء يسوع وعلى رأسهم مريم العذراء.
3-صور وصيدا وطريق التوبة
اعتادت الأناجيل أن تذكر هذين الاسمين معًا. كان الربُّ، مرَّة، يوبِّخ المدن التي رفضت أن تتوب. فقال: "ويلٌ لك يا كورزين! ويل لك يا بيت صيدا (هما في فلسطين) لأنَّه لو صُنعَت في صور وصيدا القوَّات المصنوعة فيكما، لتابتا قديمًا في المسوح والرماد. ولكن أقول لكم: في يوم الدينونة تُعامَلُ صور وصيدا بقساوة أقلّ ممَّا تعاملون" (مت 11: 21-22). وما قاله متَّى قاله لوقا (10: 13-14) الذي يهمُّه أمر التوبة وعودة الخطأة إلى الله.
استعداد صور وصيدا للتوبة، أقوى من استعداد السامعين في الجليل بشكل خاصّ، وفي أيِّ حال، نحن نعرف من أعمال الرسل أنَّه كانت جماعات مسيحيَّة في هاتين المدينتين. فحيث كان يسوع عابرًا، وهو الذي حصر عمله في الشعب الأوَّل لكي يساعده في الرسالة، سوف يقوم به الرسل. إلاَّ أنَّ يسوع وضع الأساس (مت 15: 21) حين مرَّ هناك والتقى بامرأة وثنيَّة "من أصل سوريّ فينيقيّ" (مر 7: 24، 26) وأنشد إيمانها وشفى ابنتها فكان هذا الشفاء عربونًا للذين سوف يؤمنون في هاتين المدينتين.
- سكان صور وصيدا يسمعون ويرون
بعد أحد الأشفية (مت 12: 9-14؛ مر 3: 1-6)، يقدّم لنا مرقس وهو الذي وجَّه كلامه إلى العالم الوثنيّ، وصفًا للجموع الذين كانوا مع يسوع عند بحر الجليل أو بحيرة طبريَّة. أوَّلاً: جمهور كبير من الجليل واليهوديَّة. في الأوَّل، بدأ يسوع رسالته. وفي الثانية، أنهى حياته. ولكن لم يكن هؤلاء وحدهم، وإلاَّ سُجنت البشارة في منطقة ضيِّقة ولدى المختونين وحدهم الذين حسبوا أنفسهم شعب الله.
ذكر أدومية، المنطقة الجنوبيَّة بالنسبة إلى فلسطين، وعبر الأردنّ، أي المدن الشرقيَّة مثل جرش وفيلدلفية أي عمَّان عاصمة الأردنّ. ومن الغرب، "نواحي صور وصيدا" (مر 3: 8). هم أيضًا أتوا إلى يسوع، لأنَّهم سمعوا بأعماله وخصوصًا شفاء المرضى. فالجميع يحتاجون إلى الشفاء، نفسًا وجسدًا. ولا شكَّ في أنَّ الذين رافقوا يسوع ودعاهم مرقس "الآتين من بعيد" (مر 8: 3)، أي من بعيد بالنسبة إلى بحر الجليل، ومن بعيد لأنَّهم يسمعون للمرَّة الأولى هذا الكلام، فتذكَّرنا نحن في شأنهم كلام إشعيا النبيّ: "من شفتي (يقول الربّ) تخرج ثمرة السلام. السلام للقريب (ابن فلسطين) والبعيد (الآتي من خارج فلسطين) (إش 57: 19). كلُّهم ينالون بركة الله ويحملونها إلى إخوتهم وأخواتهم. وقال لوقا (10: 17) مثل هذا القول وكأنَّه يدعو أثينة وكورنتوس وتسالونيكيا ليحذوا حذوَ صور وصيدا، ويسيروا وراء يسوع.
هي مناسبة لنتذكَّر الصيدونيِّين والصوريِّين ودورهم في بناء هيكل سليمان. قال سليمان لحيرام ملك صور: "مُرْ رجالك أن يقطعوا لي أرزًا من لبنان... فأنت تعلم أنَّ لا أحد من شعبنا خبير بقطع الخشب مثل الصيدونيِّين" (1 مل 5: 20). وفي بناء الهيكل الثاني، على أثر العودة من المنفى البابليّ. ومن الصوريِّين نذكر بشكل خاصّ ذاك الصوريّ الذي اسمه حيرام، صانع كلّ ما يتعلَّق بالمعادن. تارة أمُّه من سبط نفتالي (1 مل 7: 14) وطورًا من بنات دان (2 أخ 2: 14). قال 1 مل 7: 15: "وصنع حيرام عمودين من نحاس... وصنع تاجين من نحاس... ورمَّانات من نحاس... وصنع حيرام حوضًا من النحاس."
4-صرفت صيدا – الصرفند
النصّ الإنجيليّ
حين أتى يسوع إلى الناصرة وصلَّى مع المصلّين وقرأ من سفر إشعيا، شهد له الجميع وتعجَّبوا من كلمات النعمة الخارجة من فمه" (لو 4: 11). ولكنَّهم طالبوه بأن يعمل من المعجزات بقدر ما فعل في كفرناحوم (آ /23). عندئذٍ أورد لهم ما فعل إيليَّا حين أتى إلى لبنان. قال الربّ:
"الحقّ أقول لكم: أرامل كثيرات كنَّ في إسرائيل في أيَّام إيليَّا حين أغلقت السماء مدَّة ثلاث سنين وستَّة أشهر، لمَّا كان جوع عظيم في الأرض كلِّها. ولم يُرسَل إيليَّا إلى واحدة منهنَّ، إلاَّ إلى امرأة أرملة في صرفت صيدا" (آ /25 - 26).
لماذا أورد يسوع هذا القول؟ ليبيِّن أنَّ ما من نبيّ يكرَّم في وطنه. رُفض إيليَّا، ولاحقه ملك السامرة. فمضى أوَّلاً إلى شرق نهر الأردنّ حيث استضافه العرب وذبحوا له ذبيحة، وكانوا يأخذون له خبزًا ولحمًا في الصباح وفي المساء (1 مل 17: 5-6)، ساعة كانوا يأكلون هم الألبان والأجبان. فإذا كان اليهود عاملوا إيليَّا بهذه الطريقة، فكيف يعاملون يسوع؟ وفي أيِّ حال، "أخرجوا يسوع خارج المدينة، وجاءوا به إلى حافَّة الجبل... ليطرحوه إلى أسفل" (لو 4: 29).
موقع صرفت صيدا
هي مدينة ومرفأ في فينيقية الجنوبيَّة، وتبعد 15 كلم إلى الجنوب من صيدا. هي اليوم الصرفند. عُرفت صرفت منذ الألف الثالث ق.م. في وثيقة وُجدَت في إيبلا (تل المرديخ، القريبة من حلب)، كما في مدائح رعمسيس الثاني (1279-1212ق.م). صرفت هي إحدى المدن الفينيقيَّة التي احتلَّها سنحاريب سنة 701ق.م. وأعطيت لإتوبعل ملك الصيدونيِّين. ولكن بعد ثورة الصيدونيِّين، سنة 677 أعطيَت صرفت لبعل ملك صور. ذكرها النبيّ عوبديا (آ20) على أنَّها الحدود الشماليَّة للأرض الجديدة التي تُعطى للشعب.
كانت الحفريَّات سنة 1969-1970، فكُشف اسم المدينة (ص ر ف ت) واسم معبودها تعنيت عشتاروت. منذ القرن السادس عشر، عرفت هذه المدينة السكن وهكذا أتى إليها النبيّ إيليَّا، العائش في الثلث الثاني من القرن التاسع. أمَّا المرفأ فيعود إلى الحقبة الهلنستيَّة، بل الرومانيَّة، حيث لا تزال الآثار ماثلة حتَّى اليوم.
إيليَّا في صرفت صيدا
أقام إيليَّا في الشرق من الأردنّ، قرب سيل بسيط اسمه كريت، ولكن بسبب قلَّة المطر، جفَّ السيل. فقال له الربّ: "قمِ اذهبْ إلى صرفت التي لصيدون وأقمْ هناك. وأنا أمرتُ هناك امرأة أرملة أن تؤمِّن لك الطعام" (1 مل 17: 9).
مضى إيليَّا إلى حيث أمره الربّ. فرأى تلك الأرملة تجمع الحطب عند باب المدينة. طلب منها أوَّلاً قليلاً من الماء ليشرب (آ10). ثمَّ قال لها: "هاتي لي كسرة خبز في يدك" (آ11).
أتُرى هذه المرأة عرفت إيليَّا قبل هذه المرَّة فحلفت له: "حيّ هو الربُّ إلهك" (آ12)؟ ومع أنَّها فقيرة جدًّا، والزمن زمن جوع، لم ترفض، بل عرضت عليه الوضع كما هو: "لا كعكة عندي" أي: لم أُشعل الفرن ولا شيء مخبوزًا عندي. وأضافت: "كلُّ ما عندي ملء كفّ من الدقيق في الجرَّة، وقليل من الزيت في الكوَّة." فقر مدقع. وصلت هذه الأرملة إلى حافَّة الجوع. ولكن أطلَّت المناسبة ليتدخَّل إيليَّا: "لا تخافي." أنت لن تجوعي اعملي كعكة لي ثمَّ تأكلين أنت وابنك." فذهبت وفعلَتْ.
ولكن لا يكون الإنسان أكثر سخاء من الله. قال لها إيليَّا باسم الربّ: "جرَّة الدقيق لا تفرغ وكوز الزيت لا ينقص، إلى اليوم الذي يعطي الربُّ مطرًا على وجه الأرض" (آ14). وهكذا كان بحسب كلام النبيّ.
بركة أطلَّت على صرفت صيدا، تلك المدينة الفينيقيَّة التي قد يكون يسوع زارها، لأنَّ إيليَّا رافقه وقت التجلّي، وكان صورة بعيدة عنه. حين صعد إيليَّا في المركبة الناريَّة، رآه إليشع ونال منه النبوءة. "صعد إيليَّا في العاصفة إلى السماء، وكان إليشع يرى" (2 مل 2: 11-12). ويروي القدّيس لوقا في سفر الأعمال: "ارتفع (يسوع) وهم ينظرون وأخذته سحابة عن عيونهم" (أع 1: 9).
5- حرمون – الجبل المقدَّس
الجبل المقدَّس، جبل الحرام. يحرَّم على أيِّ كان أن يصعد عليه، وإن فعل نزلَتْ عليه صواعق السماء. ونحن نعرف كيف كانت تعامل الجبال المقدَّسة في العالم القديم، الواقعة إلى شمال البلد أو المدينة. فبالنسبة إلى أوغاريت أو راس شمرا (شمالي تركيَّا) هو جبل كاسيوس أو الأقرع. وبالنسبة إلى العراق هو جبل أراراط. بالنسبة إلى فينيقية هو جبل الأرز الذي تحدَّاه غلغامش في القديم، ودُعيَ "جبل الربّ". وبالنسبة إلى مصر هو جبل سيناء. وبالنسبة إلى فلسطين، هو جبل حرمون. لماذا موقع هذه الجبال المقدَّسة إلى الشمال؟ لأنَّ هناك تظهر نجوم الدبّ الأكبر السبع.
على حرمون كما على سيناء
فالمثال على ذلك هو جبل سيناء كما نقرأ في سفر الخروج (ف 19). استعدَّ العبرانيُّون ثلاثة أيَّام (آ1) قبل أن يحقَّ لهم أن يشاركوا في العبادة حول الجبل. توضَّأوا، "غسلوا ثيابهم" (آ14). من جهة، "صارت بروق ورعود، وسحاب كثيف غطَّى الجبل" (آ16). ومن جهة ثانية، صوت بوق شديد جدًّا". وهكذا سيطرت الرعدة على الشعب ويتواصل الوصف: "وكان جبل سيناء كلُّه يدخِّن لأنَّ الربَّ نزل عليه بالنار. وصعد دخانٌ كدخان الأتون، وارتجف الجبل كلُّه جدًّا. وكان صوت البوق يزداد اشتدادًا جدًّا" (آ18-19).
الويل لمن يصعد على الجبل
لبث الشعب في أسفل الجبل، وطلب الربُّ من موسى: "حذِّرْ الشعب لئلاَّ يقتحموا الجبل (ليصلوا) إلى الربِّ فيسقط منهم كثيرون" (آ21). والكهنة يتقدَّسون" لئلاَّ يبطش بهم الربّ" (آ22). وقد قيل لموسى: "أقمْ حدودًا للجبل وقدِّسه" (آ23). أي أعلنه مقدَّسًا، محفوظًا لله وللكهنة. وكان التنبيه قاسيًا: "احترزوا من أن تصعدوا إلى الجبل أو تمشوا طرفه. كلُّ من مسَّ الجبل يُقتَل قتلاً. لا تمسَّه يدٌ، بل يرجم رجمًا أو يُرمى (بالسهام) رميًا. بهيمة كان أم إنسانًا، لا يبقى على قيد الحياة... (آ12-13).
من سيريون إلى حرمون
هكذا كانت تعامَل الجبال "المقدَّسة" ومنها حرمون. ربَّما كان اسمه "سيريون" لدى الفينيقيِّين. كما قال سفر التثنية (3: 9) أو كتاب المزامير (29: 6)، والاسم دلَّ في أوغاريت سلسلة جبال لبنان الشرقيَّة. أمّا بالنسبة للآتين إلى الحجّ فحُفظ له الاسم المقدَّس "حرمون" وأغفل الاسم الأساسيّ.
حرمون سلسلة جبال تشكِّل نصف السلسلة الشرقيَّة اللبنانيَّة، فتمتدُّ على ثلاثين كلم من بانياس، في فلسطين إلى طريق دمشق بيروت.
أمَّا اسم جبل الشيخ كما يُدعى اليوم فيرتبط بالثلوج التي تغطّي قمَّته. وهناك تقليد شعبيّ يقول إنَّ شيخًا ورعًا أقام عليه مصلّيًا، فأخذ الجبل اسمه. تشكِّل القمَّة الحدود بين لبنان وسورية على ارتفاعات 2814، 2296، 2154. من هذه القمم، يطلُّ عليك البحر فتشرف على لبنان وفلسطين، ومن جهة الشرق، سورية والأردنّ الحالي، وربَّما أبعد من ذلك إذا غاب الغيم والضباب.
إلى حرمون صعد يسوع
إلى أعلى قمَّة صعد يسوع مع ثلاثة من تلاميذه، هم بطرس ويعقوب ويوحنّا. وكان بقربه في الرؤيا، موسى وإيليَّا. هذا يمثِّل الأنبياء الذين تمَّت أقوالهم في شخص يسوع وتعليمه. وموسى صورة بعيدة بالعهد الذي أقامه بين الله والشعب، عن العهد الجديد الأبديّ الذي قطعه الله الابن بدمه على الصليب.
هو عيد التجلّي الذي تعيِّده الكنيسة شرقًا وغربًا في السادس من شهر آب. يقول متَّى في الفصل 17: "بعد ستَّة أيَّام". نحن في إطار عيد المظالّ أو القطاف الذي يمتدُّ على ثمانية أيَّام. نحن في قلب العيد، عيد الفرح للشعب. فعل مرقس (9: 2) مثل متَّى، أمّا لوقا (9: 28) فتحدَّث عن "ثمانية أيَّام".
ذاك الجبل العالي
صعد يسوع إلى "جبل عالٍ"، لا إلى جبل عاديّ كما في مت 14: 23. أمامهم "تجلّى" تحوَّل، أخذ صورة أخرى ووجهًا آخر ما اعتاد عليه التلاميذ. "وجهه كالشمس" ثمَّ "ثيابه مضاءة كالنور". وهكذا تحوَّل الجبل كلُّه لأنَّ يسوع وقف عليه، داسه، كما القائد المنتصر يدوس رقاب أعدائه. نحن نتذكَّر أنَّ عبادة الأصنام كانت تتمُّ على الجبال، وعلى القمم، فاعتبر بولس الرسول أنَّ من ذبح للأصنام ذبح للشياطين (1 كو 10: 20). فهل يبقى هذا الجبل الرفيع مركزًا لعبادة الأصنام؟ حاشا وكلاّ. فتحوَّل وصار معبدًا للربِّ الإله وما حصل لجبل حرمون، حصل لجبل أراراط حيث وصلت سفينة نوح التي ترمز إلى عقاب الخطأة وخلاص الأبرار.
هناك تجلَّى
أجل، تجلَّى الربُّ يسوع على جبل حرمون، لا على جبل آخر. فقبل ذلك بقليل، نرى يسوع مع تلاميذه، نرى يسوع "في نواحي قيصريَّة فيلبُّس" (مت 16: 13). هي مدينة قريبة من ينابيع الأردنّ، يعني في سفح جبل حرمون. واسمها اليوم بانياس. وحدَّث الربُّ تلاميذه حالاً أنَّه "يذهب إلى أورشليم ويتألَّم كثيرًا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويُقتَل، وفي اليوم الثالث يقوم" (آ21). هذا لا يمكن احتماله. مسيح يتألَّم ! مستحيل. وجاءت ردَّة فعل بطرس قاسية: "حاشا لك". ما العمل؟ أرى يسوعُ بطرسَ ورفيقيه النهاية قبل النهاية. أراهم "القيامة" قبل القيامة. هكذا يستطيعون أن يواصلوا الطريق مع معلِّمهم بالرغم من كلِّ شيء.
لا في ثابور تلك التلَّة الصغيرة
ولكن، هناك تقليد يعتبر أنَّ التجلّي حصل على ثابور، وهي تلَّة في فلسطين ترتفع 562م عن سطح البحر. لست أدري إن كان هذا ما يُدعى جبلاً عاليًا. ثابور يبعد 9 كلم إلى الجنوب الشرقيّ من الناصرة، على حدود يسَّاكر وزبولون ونفتالي، الذين اعتبروه جبلاً مقدَّسًا. فدعا يسَّاكرُ وزبولونُ الشعوبَ لتقديم الذبائح على ثابور (تث 33: 19). ولكنَّ النبيَّ هوشع (5: 1) وسفر المزامير (89: 13) هاجما مثل هذه العبادة. ولكن مع الإنجيل إلى العبرانيِّين الذي يبدو أنَّه وُلد في مصر، في القرن الثاني المسيحيّ. وهكذا جُعل "جبل ثابور" في مسيرة الحجَّاج الآتين إلى فلسطين. فتركوا جبل حرمون ومضوا إلى ثابور، كما تركوا قانا الجليل القريبة من مدينة صور، ومضوا إلى كفركنّا، التي تبعد 6 كلم إلى الشمال من الناصرة. ثمَّ تطلَّعوا إلى خربة قانا التي تبعد 13,5 كلم إلى الشمال من الناصرة.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------
Bisri sur le chemin du Christ, article in AN-Nahar
-ردا على سؤال "النهار"، يقول الاستاذ جوزف خريش، عضو مشروع "على خطى المسيح في جنوب لبنان"، ان "هناك اتجاها عاما يتعلق بالطريق في زمن المسيح، ويصل بين صيدا وحرمون، وصولا الى ما كان يعرف بالديكابول، المدن العشر، ودمشق. وهذا الطريق اعتمده الرومان والاهالي ايام تلك الحقبة الزمنية، وتكلم عليه ايضا مؤرخون عرب. بالنسبة الى مرج بسري، من الممكن جدا ان يكون قد شكّل جزءا من هذا الطريق".
في بحث أعدّه عن أبرز المحطات في رحلات المسيح الى جنوب لبنان، وفقا لمقاربة تستند الى نصوص كتابية بيبلية وكتابات مؤرخين وبحاثة وتقاليد ومرويات محلية، يحدد المسير كالآتي: "بين يارون وقانا، ويشير الاب دوران الى ان رحلة السيد المسيح في ارض لبنان بدأت من نقطة تقع قرب بلدتي يارون ومارون الراس، حيث عرف منذ الالف الثاني قبل المسيح نظام "المدن الملجأ"، قريبا من بحيرة الحوله وبلدة الجش (جيسكالا) التي هي، وفقا لبعض المؤرخين (اوزيب القيصري وجيروم) مسقط رأس عائلة بولس الرسول. وينحدر الطريق الى واديين يؤدي كل منهما، عبر سلسلة من المرتفعات والأودية، الى قانا وصور. وبين صور والصرفند، نجد ايمان الكنعانية العظيم، بحيث تؤكد النصوص الكتابية ان السيد المسيح جال في نواحي صور، ومرّ بصيدا..
من صيدا الى حرمون وسفوحه (المدن العشر او الديكابول). بالنسبة الى وجهة مسار الطريق التي سلكها السيد المسيح بعد مغادرته صيدا، اقترح البحاثة اكثر من فرضية. يوحي النص الانجيلي (مرقس 7: 31) بأنه عرّج من صيدا الى الجهة اليمنى الشرقية نحو بلاد الجولان، قاطعا مناطق المدن العشر، ليعود منها الى طبريا. ويرى الاب بطرس ضو ان "المسيح اجتاز الجبل اللبناني من صيدا حتى مشغرة في سهل البقاع، مرورا بجزين. واجتاز لبنان الشرقي من سهل البقاع حتى ميسلون ودمشق" (لبنان في حياة المسيح، ص 275- 276). أيا تكن الآراء حول مسارات الرحلة المسيح، يبقى هناك ثلاث محطات رئيسة لا يمكن تجاهلها: قيصرية فيليبس، بانياس– حرمون– قسم من البقاع، ابيلينه او "ابيلا".
هل قصد المسيح منطقة البقاع وأجزاء اخرى من جنوب لبنان؟ يُستنتج من الآية التي جاء فيها: "ثم خرج من تخوم صور ومرّ في صيدا وجاء فيما بين تخوم المدن العشر الى بحر الجليل" (مرقس 7: 31)، ان السيد المسيح صعد من صيدا في اتجاه الشرق مباشرة او الى الشمال الشرقي، التفافا حول حرمون في اتجاه دمشق، ليصل في كل من المسارين الى بحيرة طبريا عبر المدن العشر، بينها قيصرية فيليبس وأبيلا (وادي سوق بردى) ودمشق وسواها من المدن...".
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire